(ولأننا لا نتصور إمكان حدوث المعجز الملغز، ولا حدوث أمر جلل دون مقدمات موضوعية تماماً تؤدي إليه وتفرزه، ولأننا لا نتصور ممكناً كسر قوانين الطبيعة الثابتة لأجل عيون أمة مترهلة، فلم يبقَ سوى أن نحاول إعادة قراءة ذلك التاريخ قراءة أخرى، تربط النص بالواقع، وتعيد النتائج إلى مقدماتها وأصولها الحقيقية لا الوهمية، من أجل إعادة تشكيل بنية العقل ومنهجه، ومن أجل غدٍ أفضل لأجيالنا المقبلة، ولتراثنا ذاته) [المقدمة، ص 9].
تكاد هذه العبارة تجمّل هدف الباحث (سيد محمود القمني) من كتابه (الذي يحمل عنوان: الحزب الهاشمي وتأسيس الدولة الإسلامية). فليس المهم هو تلك النتائج التي توصل إليها بحد ذاتها، ولا أشك أن الكاتب يرحب بنقدها على أسس تاريخية موضوعية، ولكن الأهم هو الأخذ بهذا المنهج التاريخي الموضوعي لفهم الماضي والتراث وليس النظر إليه بوصفه كتلة عائمة في السماء مقطوعة عن جذورها الواقعية الأرضية (قُل سيروا في الأرض فانظروا)… الآية.
يحاول الباحث (سيد القمني) إذن معرفة الشروط الاجتماعية والاقتصادية التي ساهمت في إنجاب الدين الإسلامي، ذلك الدين الذي خرج من رحم الصحراء بروح وعنفوان يعز مثيلاهما في التاريخ.
الوعي الإجتماعي
بالرغم من أن العرب -نظراً لنظامها القبلي وعصبيتها العشائرية- لا تقبل ((بفرد يملك عليهم ويسود؛ لأن معنى ذلك سيادة عشيرة على بقية العشائر، وقبيلة على بقية القبائل، وهو ما تأباه أنفة الكبرياء القبلي وتنفر منه) [ص 52]. إلا أن وجهة النظر هذه وجدت، برأي القمني، وجهة نظر أخرى ترى إمكانية (قيام وحدة سياسية بين عرب الجزيرة، تكون نواتها ومركزها (مكة) تحديداً) [ص 51].
وصاحب النظرة الثاقبة هذه هو عبد المطلب بن هاشم، جد النبي (صلى الله عليه وسلم)؛ بل إن هذا الوعي لم يكن حكراً عليه وإنما سبقه بذلك جده قصي بن كلاب وأبوه هاشم. فقصيّ قد امتلك (وعياً سياسياً واضحاً تمثل بعد استيلائه على السلطة [السيادة على مكة] في إيفاد الرسل إلى المماليك على أطراف الجزيرة؛ ليعطي مكة بذلك دور الدولة، وبهدف طمأنة هذه الممالك على تجارتها؛ ليستمر النشاط المار بمكة) [81].
وعندما استقرت ألوية الشرف (القيادة والسقاية والرفادة) في يد هاشم، بعد موت قصي، (فإن تكتيك هاشم اتجه منحى آخر تمثل في اكتساب القلوب.. ودعم قوى حزبه العسكرية برجال الحرب والدم والحلقة من بني النجار والخزرج في يثرب [المدينة المنورة لاحقاً]؛ فشد الوثاق بهم بأن تزوج سلمى بنت عمرو من بني النجار من الخزرج) (ص 97].
لكن يبدو أن عبد المطلب، بنظر القمني دوماً، فاق بوعيه سلفيه فبإدراكه لخطورة النسب عند العرب أعلن أنهم (يعودون بجذورهم إلى نسب واحد؛ فهم برغم تحزبهم وتفرقهم، أبناء لإسماعيل بن إبراهيم) وكذلك في رؤيته لإمكانية قيام الدولة المستقبلية، إذ يقول مشيراً إلى أولاده: (إذا أحب الله إنشاء دولة، خلق لها أمثال هؤلاء)، بل تمثل ذلك الوعي "التنبؤي" في (علمه اليقيني المسبق بأن حفيده محمد بن عبد الله (صلى الله عليه وسلم) هو نبي الأمة وموحدها المنتظر)! [ص 101 – 102].
العامل الجغرافي والوضع الخارجي والداخلي:
كان (موقع مكة الجغرافي بعيداً عن يد البطش الإمبراطوري (فارسية أو رومانية)، إضافة إلى حالة الضعف والانهيار التي أصابت هذه الإمبراطوريات [كذا!]؛ مع الفشل الذريع الذي مُنيت به المحاولة اليتيمة من روما لضرب مكة كمركز تجاري قوي بواسطة جيش أبرهة الحبشي… عوامل مجتمعة ساعدت على صعود النجم المكي… خاصة بعد أن تدهورت اليمن مرة أخرى… وانتهت كتابع للدولة الفارسية) [ص 74].
ولم تستطِع يثرب منافسة مكة تجارياً (نتيجة الخلافات الداخلية التي ربما كان سببها تركيبها الهجين، فبرغم تجانس السكان… فإن العامل الديني ووجود اليهود فيها كان لا شكّ عاملاً مؤججاً للصراع الداخلي)، وقد ساهمت قريش في هذا الصراع (بالتحالف مع الأوس ضد الخزرج يومي معبس ومضرس)[59].
الكعبات:
كان للعرب كعبات كثيرة قبل الإسلام، بالإضافة إلى كعبة مكة، كانوا يحجون إليها، ويذبحون عندها، وتقدم لها النذور والهدايا، ويطاف بها.
من هذه الكعبات: بيت اللات، كعبة نجران، كعبة شداد الأيادي، كعبة غطفان، بيت ذي الخلصة، بيت ثقيف وغيرها مما أحصاه المؤرخون [ص 65 – 66].
ويستند القمني للعقاد فيقول: (إن هذه البيوت كانت محرمة ولها أيامها الحرام، لكن بيت مكة بالتحديد أخذ في التمايز؛ لموقع مكة العظيم على طرق القوافل التجارية جميعا؛ حتى جاء وقت أصبحت فيه مكة ملتقى تجارة العالم، وأصبح أهلها أهم تجار الدنيا) [66].
الحنفية: إسلام قبل الإسلام
(يبدو أن التوحيد بمعناه الحنفي يعود إلى زمن بعيد، فحوالي القرن الأول قبل الميلاد كان بعض أهل اليمن يعبدون إلهاً باسم (ذوي سموي) أو إله السماء، كإله واحد، وقد ذكرت نقوش المسند اليمنية عبادة إله واحد يدعى (رحمن)) [ص 111].
من حنفاء الجزيرة كان هناك (قس بن ساعدة الأيادي)، (سويد بن عامر المصطلقي)، (أبو قيس صرمة بن أبي أنيس)، (ورقة بن نوفل)، (عامر بن الظرب العدواني)، (زهير بن أبي سلمى). لكن أهم هؤلاء الحنفاء هما: زيد بن عمرو بن نفيل الذي (اعتزل الأوثان، وفارق الأديان؛ من اليهود والنصارى والملل كلها، إلا دين الحنيفية، دين إبراهيم، يوحد الله ويخلع من دونه… وذكر شأنه للنبي (صلى الله عليه وسلم) فقال: هو أمة وحده يوم القيامة… يبعث يوم القيامة أمة وحده) [117].
بل إنه حرم على نفسه الخمر والميتة والدم ولحم الخنزير، وما أهلّ به لغير الله من ذبائح تذبح على النصب! [118].
والآخر هو أمية بن عبد الله بن أبي الصلت، وهو بدوره أيضاً حرم على نفسه الخمر، وتجنب الأصنام، وصام، والتمس الدين، وذكر إبراهيم وإسماعيل.
مع ذلك فهو قد شهد (البعثة ولم يسلم، ولم يرضَ بالدخول في الإسلام؛ لأنه كان يأمل أن تكون له النبوة، ويكون مختار الأمة وموحدها، ولذلك، برز كنموذج للاستقامة والإيمان والتطهر والزهد والتعبد، وقد مات سنة تسع للهجرة بالطائف كافراً بالأوثان وبالإسلام!!) [ص 121].
ثم يعلق القمني قائلاً: (إن الفكر السليم ليعزو انتشار الحنيفية في الجزيرة والحجاز إلى تمهيد هؤلاء وتوطئتهم، حتى تحولت إلى تيار قوي قبل الإسلام، وإن أهم رجالات الحنيفية وأساتذتها -وربما كان أولهم من حيث الأهمية والأثر- هو (عبد المطلب بن هاشم) إضافة إلى اثنين من تلامذة الحنيفية الكبار هما: (زيد بن عمرو بن نفيل بن حبيب)، والثاني (أمية بن عبد الله بن أبي الصلت) [116]. وهكذا فإنه (عندما جاء دين الإسلام العظيم، لم يلغ شعائر الحج القديمة ولا حرمة مكة، وإنما أخذ على عاتقه محاربة العصبية القبلية وتعدد الإلهة، ثم اعتبر ذاته من جهة أخرى استمراراً لدعوة إبراهيم (عليه السلام)، كما كان واضحاً أن النبي (صلى الله عليه وسلم) اتخذ خطوات متسارعة لتكوين قوة عسكرية؛ قامت بدورها في توحيد جزيرة العرب جميعاً) [ص 131].
ــــــــــــــــــــــــــــــ
– سيد محمود القمني، الحزب الهاشمي وتأسيس الدولة الإسلامية، مكتبة مدبولي الصغير، الطبعة الرابعة، 1996م.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات عربي بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.