لديَّ مشكلة حقيقية بشأن الاستهتار بالمواعيد، لا مانع لديَّ أن تتأخر، لكن أخبرني بأنك ستفعل، لا تجادِل إذا تجاوزت الموعد، فقط يمكنك أن تعتذر؛ حتى لا يبدو لي أنك تعتبره أمراً عادياً.
لكن مع الوقت، تُعلِّمنا الحياة أن الأمور لا تقاس دائماً بالمسطرة، وأن الاستثناءات قد تكون واجبة، وأن التجاوز قد يكون فضيلة.
في أواخر أيام نيابة الجراحة، كنت على وشْك أن أغادر العيادة بالمستشفى بعد أن انتهت بالفعل، متجهاً إلى القسم المكتظ بالمرضى؛ لأكمل سيلاً من الواجبات دون توقُّف، تستوقفني امرأة ثلاثينية تحمل ابنها البالغ من العمر سنة واحدة، وتسأل عن طبيب الجراحة..
– عايزه دكتور الجراحة ليه؟
– عشان يكشف لي ع الواد.
– العيادة خلصت يا ماما، مجيتيش من الصبح ليه.
– (ردَّت بتلقائية): ماهي دي المفروض مستشفى، الدكاترة هتروح فين يعني؟!
كان ردُّها كفيلاً باستثارة حفيظتي واستدعاء كل معاني كراهية الاستهتار بالمواعيد، لأخبرها بوضوحٍ:
– تيجي في الصباح الباكر، وتقفي في دورهم لتحصلي على تذكرة حتى تتمكني من الكشف.
سكتت المرأة سكوتاً يعني إذعان المُكرَه، وقفت في مكانها بضع ثوانٍ، بدا عليها خلالها الحيرة، ثم قالت بضحكة اللامبالي:
– ماشي.. بكرة بكرة.
وحملت وليدها على خصرها كما تعتاد نساء الأرياف أن تفعل.
صعدت أنا إلى عملي بالقسم مرتاح البال، وبدأت بمباشرة عملي، يجب ألا يعكِّر صفو يومي هذا الردُّ المستفز من تلك المرأة، ثمة أمور أكبر تنتظرني كفيلة بتعكير صفو يومي.
في اليوم التالي، بعيادة الجراحة، وقبل انتهائها بقليل تدخل المرأة صاحبة الأمس تحمل وليدها بطريقتها المعهودة وتضحك..
– ها جيت لك قبل ما تمشي أهو يا دكتور، ينفع نكشف بقى؟
– جاية ع الآخر بردو!
– المواصلات بقى يا دكتور، المهم الواد دا عايزه اكشف له.
قمت بدوري بالكشف على الطفل، الذي بدا أنه سيجلب عليها أياماً من الهم والأسى، كان الولد مصاباً بسلسلة من العيوب الخَلقية التي ستسبب له إعاقات دائمة، وتحتاج إلى ثلاث أو أربع عمليات جراحية معقدة، ستستوجب ربما عشرات الزيارات إلى مستشفى حكومي حتى يمكنها إنجاز الأمر، لم تكن زيارتها الأولى للمستشفى تنبئ بأنها من ذلك النوع الذي سيتحمل هذا، لكن لا بد من إخبارها بالأمر.
صرت أشرح لها وهي تنظر بنظرة لا يبدو منها التأثر ولا التأفف، لم تكن تزعجها مطلقاً فكرة الزيارات ولا المتابعات ولا تعدُّد العمليات ولا احتمالات الإعاقة! كانت تنتظرني أن أنهي كلامي حتى تسأل سؤالاً واحداً:
– مش انتو هتعملوا لنا الحاجات دى ببلاش يا دكتور، أصله أبوه ميت وأنا لازم اللي آجي بيه، وبسيب إخواته فى البيت لحد أما أرجع لهم.
– أيوة يا أمي العمليات هنا ببلاش.
تنفسَت الصعداء ووعدت بالمتابعة والالتزام، وقد كانت مشكلتها الأزلية التى تزعجني منها، حضورها المتأخر دائماً، ومقابلة العتاب بضحكتها، التي كانت تبدو لي ضحكة بلهاء تصدر من شخص لا يقدّر الموقف، لكن كنت أتغاضى عن هذا، حتى أخبرتني ذات يوم في مرور مسائي بأنها تتأخر لأنها تخرج من بيتها باكراً وتودِّع باقي صغارها، وتمشي مسافة تتجاوز الكيلومترات حاملةً وليدها، الذي يلفُّ رجليه حول خصرها، حتى تخرج إلى طريق غير ممهَّد، تنتظر أي شيء تركبه، وغالباً ما ينتهي بها الحال في سيارة ربع نقل تقلُّ بعض البهائم أو العمال، فتقفز معهم وتخبِّئ صغيرها تحت خمارها؛ حتى لا يناله غبار الطريق الذي اعتادت رائحته!
كانت تقصُّ هذا ولا تنتظر مني تعاطفاً، أنا من بادرتها بالسؤال أصلاً عن سبب تأخيرها المعتاد، لكنها وقد كانت تواجه هذا، كانت تمتلك تلك الضحكة الريفية التي تتغلب بها على الصعاب؛ زوجها الذي ترك لها ثلاثة أولاد، وابتلائها بصغيرها، وضيق ذات يدها، بالكاد تجد ما تطعم به أولادها، لكنها تجتاز هذا، وما زالت قادرة على الابتسام!
بعض الناس يُصابون بالكآبة حين يفقدون بعض الكماليات الزائدة، والبعض يناضلون للبقاء على قيد الحياة دون أن تفارق شفاههم البسمة، لقد كانت تحمل هذه المرأة كل معاني الرضا في قلبها وتبتسم.
في إحدى زياراتها التي تكررت كثيراً في الأيام اللاحقة، طلبتْ أن تستشيرني في أمر يخصها، وقد أهملتْه؛ لأنها لم تكن تريد أن تفتح المواضيع الجانبية قبل أن تهتم بطفلها.
– ممكن يا دكتور أسألك ع حاجة.
– اتفضلي.
– صدري ظهر فيه كلكوعة كدا، مطنّشاها من زمان بس بتكبر، ممكن تبص لي عليها لما تفضى، ولا نخليها مرة تانية؟
– لا.. هبص لك عليها حاضر.
كانت المفاجأة؛ كل علامات الفحص تشير إلى أن المرأة مصابة بسرطان الثدي منذ مدة ووصل إلى حجم كبير، وهي تساورها الشكوك، لكنها تفضل مصلحة طفلها، وتهمل نفسها، وهكذا يضاف إلى قائمة ابتلاءاتها واحد جديد، لعله أعظمها!
قلت لها بعد الفحص: هل معك أي مرافقين أو أهل أو زوار؟
أجابت بالنفي وقالت: "كتّر خير الجيران اللي بياخدوا بالهم من عيالي لحد ما أرجع".
كان لا بد أن أخبرها إذن، طالما أنه لا رفيق، فلا بد من إخبارها، وقد كان
كنت أقصُّ عليها احتمالية كون سرطانها يستوجب استئصال الثدي، والخضوع لجلسات من العلاج الكيماوي والإشعاعي، ورحلة من العلاج قد تطول، انتظرتْ حتى انتهيت من كلامي وسألت السؤال ذاته:
– مش بتعملوها هنا مجاني يا دكتور؟
– أيوه يا أمي.
– طيب هارتّب مع الجيران بقى وأشوف ممكن آجي إمتى.
هكذا بهذه البساطة؟! كيف تتقبل الأمور بهذا الهدوء؟! يبدو أنه ليس من رفيق يشاطرها أحزانها فتكتمها بداخلها. في العادة، يرتمي المريض بأحضان مرافقيه ويُظهر الجزع، لكن هذه المرأة بلا رفيق!
أنهت المرأة إجراءاتها الخاصة بعمليتها، مؤجِّلة إجراءات وليدها، وخضعت للجراحة وإزالة الثدي. في اليوم التالي، كانت تستعجلني للذهاب؛ لأن أولادها ربما يبيتون بعض ليالي غيابها دون طعام!
لا أعرف هل تساورها الأسئلة أم لا، كيف ستنتقل إلى بيتها في هذه الحالة بهذا الجرح الهائل بجسدها بعد جراحة صعبة؟! وليدها الذي تحمله على خصرها، المواصلات المزدحمة التي ترتمي فيها فتؤذيها وهي في أتم صحتها، كيف ستنتقل به في هذه الحالة؟! حين تصل إلى أولادها من أين ستأتي لهم بالطعام؟! كل الذي كنت أراه في عينيها أن الأيام تمضي وأنه ما من شيء يستحق الجزع.
مضت الأيام، وتابعت المرأة بشجاعةٍ، رحلتها بين أروقة المستشفيات حتى أتمَّت خلال شهورٍ، علاجها الكيماوي والإشعاعي.. وابتلعتها الأيام، وغابت فترة من الزمن..
بعد شهور، كنت أمرُّ في إحدى طُرُقات المستشفى، لأجد امرأةً نحيلة الجسم شاحبة الوجه، تنادي بابتسامةٍ مثقَلة: إزيك يا دكتور محمد.
عرفتها من ولدها، الذي تحمله بصعوبة على خصرها بطريقتها المعتادة، فتوقفت ورددت السلام، وسألتها عن أحوالها، لتخبرني برحلتها المعتادة الشاقة بشكل يومي، وأنها نجحت في إنهائها بكرم ربنا كما قالت.
– وانتي جاية ليه النهارده؟
– كنت عايزه حد في عيادة الجراحة يبص لي ع الجرح مكان العملية؛ لأني حاسة بأنه واجعني وإيدي وارمة، بس الدكتور في العيادة قالي إنتى جاية متأخرة ومشي، فقلت خلاص هاجي بكرة بقى وأحاول متأخرش.
– إحنا نفتح لك العيادة مخصوص وتيجي متأخرة براحتك.
– ربنا يخليك يا دكتور محمد، إحنا دايماً بنتعبكم.
ربما ستدور الأيام على زميلي الذي أخبرها بضرورة الحضور غداً في الموعد؛ لتُعلِّمه كما علَّمتني أن البعض يعيش معنا لكنه بوادٍ آخر، يناضل في حياته التي لم تترك له مجالاً للرفاهية أو الجدل، لو لم يكن مثل تلك المرأة الجسورة جديرة بالاستثناء، فمن يكون جديراً به إذن؟
طمأنتها بعد الكشف، ومازحتها بأنها بـ"تتدلع ومعندهاش حاجة"، فابتسمت ابتسامتها المعهودة وقالت:
– الحمد لله، أنا خُفت يكون عندي حاجة!
– الحقيقة انتي عندك كل حاجة صعبة، بس عندك قلب كبير ورضا عظيم، إنتي بتمثلي دور البطولة الحقيقية في حياة موازية لا يلتفت إليها أحد.
وللبطولة ميادين أخرى..
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.