الجميع في مصر لا يتوقفون عن الاندهاش من تفشّي ظواهر التحرُّش الجنسي، وتعاطي المخدرات، والانحراف السلوكي في أشكال وتنويعات كثيرة.. نتأمل أخبار الحوادث المُفزعة في الصحف والمواقع الإلكترونية، ونُفتّش عن مرتكبي الفظائع بيننا، وكأن هناك علامة مميزة تُميّزهم بشكل ما ونظن أنهم لابد مجرمون بالفطرة.
نتساءل عن الكيفية التي ينتح بها مجتمعنا هذا الكم من السيكوباتيين، دون أن نلاحظ الإجابة الموجودة أمامنا في كل مكان؛ في الشارع والمولات والمواصلات.. من المستحيل أن تكون قد عشت في مصر دون أن تعايش مشهد الأم التي تصفع ابنها بعنف على وجهه، ثم تسحبه وتكمل مشيها بمنتهى السلاسة، وهو يمسح دموعه ويحاول اللحاق بها.. ليس شرطًا أن يكبر هذا الطفل فيصبح قاتلًا أو سيكوباتيًا يتحرش بالنساء، لكنه بالتأكيد يملك فرصًا أكبر ممن لم يتعرض لمثل هذا العنف في طفولته.
لا زلتُ أتذكر نفسي خارجًا من باب مدرستي الإعدادية؛ لأشاهد فتى أعرفه، كان قد غادر المدرسة قفزًا من فوق السور في منتصف اليوم الدراسي؛ ليلعب الكرة مع عدد من الفتية في الشارع الخلفي المدرسة.. كان الفتى مسحوبًا على الأرض من قبل والده، والركلات والضربات تنهال عليه كأفلام الأكشن، حتى أنه داس بحذائه على وجهه وهو على الأرض.. كان الأب- متين البنيان- قد جاء في ميعاد خروجنا، واكتشف هروب ابنه للعب الكرة، ولم يرحم توسلاته ولا صراخه، ولا حتى الدم الذي غطى وجهه.
لو كبر هذا الابن ليصبح قاتلًا أو تاجرًا للمخدرات أو مغتصبًا، هل علينا أن نندهش؟
Gerald's game
فيلم أمريكي صدر في 29 سبتمبر الماضي، من خلال موقع شركة "نتفليكس" المنتجة له.. الفيلم ينتمي لنوعية أفلام "الرعب النفسي"، وهذا ليس بغريب بالنسبة لفيلم مقتبس من رواية لـ "ستيفن كينج"، أحد أهم كُتّاب أدب الرعب في العالم.. وجمال الفيلم يكمن في أنه أعمق بكثير من مجرد فيلم رعب.
الزوجان "جيرالد" و"جيسي" يذهبان في إجازة في منزل منعزل؛ في محاولة لإعادة الحياة لعلاقتهما الزوجية التي سيطر عليها البرود منذ عدة أشهر، من خلال "لعبة" اقترحها الزوج.. اللعبة ببساطة هي أن يربط الزوج زوجته في الفراش بواسطة كلابش حديدي؛ ليمارس معها الحب وهما يمثلان أنها ضحية مخطوفة وهو رجل شرير يسعى لاغتصابها؛ لعبة غريبة ظنّ الزوج أنها الحل لبرود عاطفي تسبب في هجر طال بينهما في الفراش.
وهنا تحدث أسوأ صدفة ممكنة: يموت الزوج إثر أزمة قلبية مفاجئة، ويسقط على الأرض، تاركة زوجته مقيدة للفراش بقيد حديدي، في منزل معزول بين الغابات… عاشتْ "جيسي" واحدة من أقسى التجارب التي يمكن أن يتعرض لها بشر، ومن هنا انطلق الفيلم في رحلة تشريح نفسي لماضي البطلة، خصوصًا مرحلة الطفولة، وعندها كان عليها مواجهة ما هو أسوأ من الأشباح: نفسها!
رعب الفيلم لا يعتمد على أسلوب "الخضّات" المعتاد في الأفلام الأمريكية، بل هو رعب من نوع رفيع، يجعلك أثناء المشاهدة تشعر بهذه الحالة الفريدة من عدم الارتياح..يدخل الفيلم لماضي "جيسي"، ويرينا كيف تشكّلت شخصيتها المهزوزة، سهلة الانقياد؛ بسبب عدة صدمات عاشتها في طفولتها، بالتحديد صدمة معينة؛ موقف بعينه جعل منها- فيما بعد- امرأة يُفعل بها ما يريده الآخرون، دون أن تمتلك جرأة الرفض والاعتراض بصوت عالٍ.
منح القدر "جيسي" فرصة للتفكُّر فيما مرّت به، وكيف وصلتْ لما أصبحتْ عليه؛ فوجدتْ الإجابات هناك بعيدًا في طفولتها.
كم نحتاج نحن أيضًا للفرص التي منحتها إياها لعبة "جيرالد"!
معظم الإجابات موجودة هناك، في مرحلة "الطفولة" التي نتجاهلها، عن عَمد أحيانًا.
الصدمات التي نتعرض لها ونحن أطفال لا تُنسى؛ فالجروح التي تصيب نفسية الطفل الرقيقة التي تتشكل ببطء لا تُمحي كما نظن؛ لكنها تعيد تشكيل نفسها في شكل عُقد نفسية ومرارات تلاحق أصحابها في مراحل نضوجهم، ويحتاجون لجُهد كبير ليتجاوزونها.
الحقيقة المؤسفة أن معظمنا لا يأخذ موضوع تربية أطفاله على محمل الجد.. نتعامل مع أطفالنا على أنهم كائنات مصمتة، لا يتأثرون بالكيفية التي نربيهم من خلالها.. فكرة "الإنجاب" نفسها لا نفكر فيها بالقدر الذي تستلزمه من الجدية واستشعار المسئولية؛ مسئولية تنشئة طفل في هذا العالم الملئ بالقبح… أعتقد أننا سنبدأ السير على الدرب الصحيح، عندما نتعامل مع جرائم التربية، بقدر متساو من الأهمية التي نوليها لجرائم القتل العمد؛ فقتل مستقبل طفل؛ بسوء التربية، لا يقل جُرمًا عن قتل إنسان بالغ.. ما أبشع تشويه الأحلام في مهدها!
– تم نشر هذه التدوينة في موقع العدسة
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.