تهافت العلماء

إلى عهد قريب كانت الكلمة الأولى فيما وراء الطبيعة للفلسفة، وإن كان للعلماء مشاركة في هذا الفرع من الفلسفة فهي في باب الاختيارات الفلسفية أدخل منها في باب الآراء العلمية.

عربي بوست
تم النشر: 2018/02/16 الساعة 00:11 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2018/02/16 الساعة 00:11 بتوقيت غرينتش

ما وراء الطبيعة بين الفلسفة والعلم

إلى عهد قريب كانت الكلمة الأولى فيما وراء الطبيعة للفلسفة، وإن كان للعلماء مشاركة في هذا الفرع من الفلسفة فهي في باب الاختيارات الفلسفية أدخل منها في باب الآراء العلمية.

ولم تكن الميتافيزيقيا يوماً ما موضوعاً للعلم، فلا سبيل له إليها، ذلك أن العلم كما عرفه أينشتاين: (التفكير المنهجي الذي نوجهه نحو اكتشاف الارتباطات التي تنتظم وفقاً لها مختلف تجاربنا الحسية). (1)

فليس ينتظر من العلم أن يقول شيئاً فيما وراء الظواهر من حقيقة طبيعة الأشياء النهائية، يقول الفيلسوف هربرت سبنسر: (عندما نحلل المادة لا نجد شيئاً في النهاية سوى القوة، ومن سيخبرنا ما هي القوة؟ وفي التحول من العلوم الطبيعية إلى علم النفس نأتي إلى العقل والشعور، وهنا نصادف ألغازاً أشد حيرة من سابقتها، عندئذ تكون الآراء العلمية النهائية تقديماً لحقائق لا يمكن إدراكها.. فإن البحث العلمي في جميع الاتجاهات ينتهي في مواجهة الغاز وأحاجي لا يمكن حلها، فالعلم يعرف بسرعة مدى عظمة وتفاهة العقل الإنساني). (2)

ونحن نعلم أن سبنسر يعمم هذه النتيجة على العلم والفلسفة (العقل) فهو يرى أن العقل البشري، سواء توسل بالمنهج العلمي أم لم يفعل قد أعد؛ ليفهم ظواهر الأشياء وعندما نحاول استخدام العقل في فهم ما وراء الظواهر فإنما نزج أنفسنا في عبث لا طائل تحته، ولكننا نختلف معه في التسوية بين قدرة الفلسفة والعلم في اكتناه حقائق المجهول؛ لأن ثمة محددات في طبيعة العلم تجعله قاصراً عن معالجة ما وراء الظاهر من حقيقة على خلاف الفلسفة فليست تخضع لرقابة الاختبار.

فلا يصح أن تكون الفلسفة خادمة للعلم، وإن صح هذا وقفنا عند الظواهر أبداً، وحرمنا من مطالعة الحقائق الكامنة وراء الظواهر، إنما يصح أن يكون العلم تابعاً للفلسفة ووسيلة من وسائلها إلى مطالعة المجهول.

أينشتاين وستيفن هوكينغ نموذجاً

بعد الفتوحات الكبرى في مختلف المجالات العلمية خُيّل لبعض العلماء أن العلم تكفّل بكل شيء وجرت محاولات لإقامة صرح الفلسفة على العلم، وأخيراً أعلن ستيفن هوكينغ موت الفلسفة، وأنه في استطاعة العلم أن يجيب عن أسئلة الوجود الكبرى، ومن ثم وقع التناقض عند العلماء وخبطوا في ذلك خبط عشواء، خذ مثلاً أكبر علماء عصره أينشتاين، فقد ذهب فيما وراء الطبيعة إلى وجهة نظر سبينوزا في رفض الإيمان بإله شخصاني (له شخصية)، واعتمد في مذهبه على أساسين:

1.الإحساس بذكاء سامٍ متألق ومعقولية في الكون لما نرى من تناسق في القوانين الطبيعية يقول: (قل أن تجد عالماً تعمق في العلم بدرجة كبيرة ليس له إحساسه الديني الخاص، وهذا الإحساس يختلف عن إحساس البسطاء من الناس ). (3)

2. إن الإيمان بإله شخصاني (له شخصية) يتعارض مع العلم، ويؤدي إلى الصراع الحتمي بين العلم والدين، يقول: (على قدر تشبع المرء بفكرة الانتظام المرتب لكل ما يحدث في الطبيعة يصبح اقتناعه ثابتاً بأنه لا محل لتصور وجود أسباب ذات طبيعة أخرى بجانب هذا الناموس، مثل هذا الإنسان لن يسلم بوجود مشيئة إلهية أو إنسانية كسبب مستقل للحوادث الطبيعية). (4)

ولسنا في مقام التمحيص والنقد لهذه الأدلة، ومن المعلوم أن حجة الإسلام الغزالي عالج مسألة السببية ببراعة منقطعة النظير في كتابه (تهافت الفلاسفة) قبل أن يتقدم العلم ويتشبع أينشتاين بالقوانين الطبيعية، وهي مسألة وثيقة الصلة بهذه القوانين.

ولكن سؤالنا الأهم هو: هل سار أينشتاين على الطريق الصحيح بأن اهتدى بالعلم في رؤيته الفلسفية أم جعل من الفلسفة خادمة للعلم وضل الطريق؟

يبدو لنا أنه بدأ من العلم وانتهى به في تقرير مذهبه الفلسفي؛ لأنه لا يعتد بالأدلة العقلية المناقضة لأدلته (إن ادعاء تدخل إله شخصاني في مجرى الحوادث الطبيعية لا يمكن رفضه تماماً بالمعنى الحقيقي؛ لأن مثل هذا الادعاء يستطيع دائماً أن يحتمي أو أن يتحصن في أحد تلك المجالات التي لم يستطع العلم إلى اليوم أن يجد مكاناً فيها لموطئ قدم أو أن يتناولها بوسائله، لكنني مقتنع أن سلوكاً كهذا من جانب رجال الدين ليس مزرياً فحسب بل أثيماً). (5)

وهذه عبارة من يرى أن الأدلة العلمية هي الأدلة المعتبرة في الماورائيات، حتى إنه ليضيق ذرعاً بما سواها.

وهنا يطفو إلى السطح تناقض العلماء، بينما هم يعرفون جيداً أنه لا سبيل للعلم إلى ما وراء الطبيعة يطلبون منه العبور إليه!

وهكذا نجد العلماء ممن اتخذوا من العلم منارة في بحر الميتافيزيقيا المظلم بين من يؤمن بإله سبينوزا (وحدة الوجود)، ومن لا يعتقد بوجود الإله من الأساس مثل ستيفن هوكينغ.

وفي رأيي أن كلا الرأيين قريب من قريب، وربما كان هوكينغ مثالاً جيداً بهذا الصدد، فقد كان يؤمن بإله سبينوزا كما يلوح غامضاً من مقابلاته وكتاباته، ثم أتى به الأمر إلى الإنكار التام لوجود الإله.

في كتابه أحلام الفيزيائيين في الحصول على نظرية فيزيائية نهائية يقول ستيفن واينبرغ الحاصل على جائزة نوبل: (أما رجال العلم وسواهم من المفكرين فيستعملون كلمة الله لتعني شيئاً مجرداً وغير معني بشيء لدرجة أنه يصعب التمييز بينة وبين قوانين الطبيعة). (6)

ولا عجب في هذا، ما داموا يطلبون الجواب ممن لا يملك الإجابة.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المراجع والمصادر:

– آراء ومقالات أينشتاين، ص252.

– قصة الفلسفة، ص 467.

– آراء ومقالات أينشتاين، ص 245.

– آراء ومقالات أينشتاين، ص 250.

– آراء ومقالات أينشتاين، ص 251.

– أحلام الفيزيائيين، ص191.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد