لمَن أكتب يا ترى؟

قليلا ما نكتب بعنفوان؛ لكي نحكي حياتنا، وغالباً ما نكتب لنتحدث عن أشياء لم نعِشها، شبه متيقنة أنا أن كل مَن يكتب عن شيء عاشه يمزق الورقة مع آخر نقطة يُكمل بها ما كتبه، فلا أحد سيرغب في التجرد أمام الملأ، ولا أحد يهوى نشر غسيل أحزانه وخيباته وتفاصيل فشله في الحياة أمام أعين من هبَّ ودبَّ.

عربي بوست
تم النشر: 2018/02/16 الساعة 00:09 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2018/02/16 الساعة 00:09 بتوقيت غرينتش

سُئلت كثيراً عمن أكتب له وعن كم مرة أحببت، ولكن لم يسألني أحد يوماً لماذا أكتب أو كيف بدأت الكتابة؟

أتفهم أحياناً ذلك السؤال، فالناس يأخذون ما نكتب على محمل الجد أكثر مما ينبغي، وحتى وإن أجبتُ على السؤال فلا أعتقد أن جوابي سيُطفئ لهيب فضول السائل؛ لذلك كان جوابي هو: كم مرة أحبَّ فيها نزار؟ وكم امرأة أُغرم بها جبران؟ وهل يمكن عدُّ الرجال الذين خيّبوا فيروز والذين أحبّوها؟ غنّت كثيراً وبإحساس راقٍ ورائع عن الكثير من الحب وعن الكثير من الخيبات، ولكن لم يقُل أحد عنها إنها يائسة أو متشائمة، أو إنها امرأة تهوى الحزن، ولم يتحدث أحد عن عدد قصص الحب التي عاشتها، والتي سنظنها كثيرة إذا ما اعتقدنا أن كلّ أغنية كانت لمدح أو لبكاء حبيب.

من الغباء فعلاً محاولة فهم الأشخاص من خلال ما يكتبون، وإسقاط أفكارهم على حياتهم، اكتشافي لهذه المعضلة جعلني أتخلّى عن الشبكات الاجتماعية وعن نشر ما أكتب، فأنا في غِنى عن تفسير أشياء لأشخاص لن يفهموها مهما طال الشرح ولن يتخلوا أبداً عن إطلاق الأحكام الجاهزة التي لن تصب أبداً في مصلحتي.

لذلك صرت أميل إلى اعتزال الأشخاص وصرتُ أفضّل بكثير مجالسة مذكرتي فهي لم تسألني يوماً بمَن أنا متيَّمة؟ ولمن أكتب؟ لربما تعرف من خلال ما أكتب أن لا أحد يستحق أن أكتب له، ربما.

قليلا ما نكتب بعنفوان؛ لكي نحكي حياتنا، وغالباً ما نكتب لنتحدث عن أشياء لم نعِشها، شبه متيقنة أنا أن كل مَن يكتب عن شيء عاشه يمزق الورقة مع آخر نقطة يُكمل بها ما كتبه، فلا أحد سيرغب في التجرد أمام الملأ، ولا أحد يهوى نشر غسيل أحزانه وخيباته وتفاصيل فشله في الحياة أمام أعين من هبَّ ودبَّ.

والإنسان، بطبعه الغريب وضعفه الذي أقسم به المولى عزَّ وجلَّ، يهوى إظهار القوة وتحرِّي الغموض في كل ما يفعل.

فأخوه الإنسان ينبهر بما هو قوي حتى وإن كان مزيَّفاً ولا يُحب أبداً ما هو حقيقي سواء كان قوياً أو خُدش بالضعف، وخير دليل هو الكم الهائل للتفاهة التي يغرق فيها العالم الافتراضي.

تَجوَّل قليلاً في إنستغرام الفتيات الجميلات "والفارغات" إلا من كميات خيالية من الصبائغ والمساحيق، تأمَّل صورهن ونوعية الاستشهادات المرفقة لها والتي تحثّ غالباً على تحرر المرأة من الرجل، وليس من المكياج طبعاً رغم أن جُل المتتبعين رجال يتغنون بجمالها في حين هناك قلة من النساء يسألن ويبحثن عن نوع أحمر الشفاه وعن ماركة الحذاء وكيفية الحفاظ على رشاقة الجسم ونضارة البشرة والجميلات الساحرات يسردن تفاصيلهن المملّة فهن قدوة المجتمع!

ولا تنسَ إلقاء نظرة "اشمئزاز" على حسابات الرجال التافهين أيضاً وتأمل صور عضلاتهم المفتولة في قاعات الرياضة أو أمام سياراتهم الفاخرة مع استشهادات في مدح الرجل القوي الوفي، وانتقاد ضعف الفتيات أمام فخامة هذه السيارات، مع العلم أن الهدف من اقتنائها أصلاً هو لفت انتباه تلك الفئة من الفتيات.

وفي الأخير تأمّل عدد المتتبعين والمعلقين وحاول إيجاد معدل السخافة والتفاهة في حياتنا… فكّر في كل هذا ولا تحاول أبداً سؤالي عمّن أكتب له وعن أسباب حزني وكآبتي -هذا إن ثبت وجودهما وانتسابهما لي- ولا تُشجعني على مواصلة المسير حفاظاً على قوتي وعدم الاستسلام لضعفي؛ لأنك تجهل كلياً حجم قوتي ومكامن ضعفي، ولا تعرف شيئاً عن كل المعارك التي خُضتها وعن الحرب التي أُقحِمت فيها رغم أنفي ولا أعلم متى يمكن أن تنتهي، ولا تعلم أنت إن كنت أخرج من كل معركة بدمعة انهزام حارقة أم بابتسامة نصر ماكرة.

أما الحب الذي كتبت عنه كثيراً، فلا أعرف عنه إلا قليلاً فهو ما زال هناك فوق رفّ الانتظار، لم ينجح أحد بعد في فك لعنة "عدم الثقة"؛ لأنني أؤمن أنه ليس من الفطنة أبداً أن تحب شخصاً، وأنت مُدرك أنه سيُبدع كثيراً في إيذائك.

لذلك دعك منّي، ولا تُبذر طاقتك في محاولة فهمي، سيُرهقني الشرح في كل مرة، ولن تُقنعك إجاباتي مهما بالغتُ في تبسيطها، ستُتعبك تقلبات مزاجي وقد تتيه وأنت تبحث فيها عني، وعن انعكاساتها في كتاباتي.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد