كان محط إعجاب حسناوات عصره، لكن قلبه مال لواحدة فقط، ورغم تحذيرات عرافته، التي قالت بأن نهايته ستكون على يدها، إلا أنه تجاهل كلامها وتزوج ممن اختارها قلبه، وأنجب منها 4 أبناء، ولكن…
اسمه ألكسندر بوشكين، ولد في موسكو عام 1799، لأب من الطبقة النبيلة يعمل مستشارا عسكريا، وأم حسناء من سان بطرسبرغ تنحدر من أسرة ذات أصول حبشية بعيدة، وهو ما جعل ألكسندر يتمتع بملامح غريبة وغير مألوفة لدى الروس، فقد امتلك في نفس الوقت شعرا مجعدا وشفتين غليظتين وعينين زرقاوين، ما منحه جاذبية هي أقرب لأمراء الشرق، وإن عانى في سنوات طفولته الأولى من نفور أمه التي لم تتقبل شكله، وسخرية واحتقار زملاء المدرسة الذين لقبوه بالقرد، فدفعه ذلك أيضا إلى كراهية شكله كلما نظر إلى نفسه أمام المرآة. ورغم كل ذلك، كان ألكسندر محظوظا، فهو ابن أسرة أرستقراطية روسية، تتنفس الأدب، وتتكلم باللغة الفرنسية التي اقترنت في تلك الفترة بالثقافة والرقي، ما مكنه من الاطلاع على الأدب الفرنسي في سن مبكرة، وقراءة أعمال فولتير ودولافونتين وهو بعد في العاشرة من عمره.
وهكذا وجد ألكسندر ضالته في المطالعة، وكانت مكتبة الأسرة ملاذه الوحيد، فقرأ للإنجليز كـبيرون وشكسبير وستيرن، وللفرنسيين كموليير وبارني، ونال إعجاب محيطه في سنوات المراهقة وبداية الشباب، فلقب بالفرنسي، نظرا لإجادته التامة للغتين الفرنسية والروسية، وأيضا لقوة ذاكرته وقدرته المدهشة على الحفظ واستظهار الأشعار الطويلة والمعقدة بسهولة تامة.
بدأت محاولات ألكسندر الشعرية في سن مبكرة، ونشرت له قصيدة "إلى صديقي الشاعر" عام 1814، وهو بعد في الخامسة عشرة من عمره، ونالت استحسان شعراء كبار في ذلك العصر، كـكافريلا ديرجافين. مع توالي السنوات، صقل ألكسندر بوشكين موهبته الشعرية، وتراوحت مواضيع قصائده بين الرومانسية والنقد الصريح لمظاهر الفقر والحرمان في بلده، رغم أنه لم يكن من أبناء هذه الطبقة المسحوقة، بل وشغل وظيفة مريحة في وزارة الشؤون الخارجية بعد إكماله دراسته. بدا واضحا أن قصائده اللاذعة لم تكن لتعجب السلطة الحاكمة، فأصدر القيصر ألكسندر الأول قراره بنفي بوشكين إلى جنوب البلاد، في مناطق القوقاز ومولدافيا وأوكرانيا، بعدما أفلت بأعجوبة من أمر النفي إلى جحيم سيبيريا.
لم يكتف ألكسندر بالشعر فقط، فقد كتب أيضا في الرواية والمسرحية، ونشرت له كذلك مقالات صحفية، لكنه لم يحظ أبدا بالاستقرار المنشود
كان لسنوات النفي الست مفعول عكسي على تجربة ألكسندر بوشكين الشعرية والأدبية بشكل عام، فقد ساهم اكتشافه للريف الروسي والقوقازي، واحتكاكه بعادات وتقاليد تلك المناطق البعيدة عن موسكو وسان بطرسبرغ في إغناء رصيده المعرفي وتطوير ملكته الإبداعية، وأيضا تعميق تجربته الإنسانية. بعد تولي القيصر الجديد نيكولا الأول مقاليد الحكم، أصدر قرارا بالعفو عن بوشكين وإعادته إلى موسكو، فوافق ألكسندر، رغم أن القرار كان يحمل في طياته بعض التضييق على حريته في الإبداع.
بعد سلسلة من العلاقات المتعددة والمضطربة، فكر بوشكين في الزواج، معتبرا أن ذلك سيكون سبيله الأوحد للوصول إلى السعادة المطلقة، وفي هذه الفترة خفق قلبه لحسناء روسية من موسكو، تدعى ناتاليا كونتشاروفا، لم تكن قد تجاوزت العشرين من عمرها بعد، ورغم العراقيل التي حاولت والدة ناتاليا وضعها أمامه، والتحذيرات التي أطلقتها عرافة ألكسندر حول خطورة هذه المرأة كما أشرنا إلى ذلك في البداية، إلا أنه تزوج من ناتاليا عام 1831، وبعد إقامة قصيرة في موسكو، قرر الزوجان الانتقال إلى سان بطرسبرغ.
لم يكتف ألكسندر في هذه الفترة بالشعر فقط، فقد كتب أيضا في الرواية والمسرحية، ونشرت له كذلك مقالات صحفية، لكنه لم يحظ أبدا بالاستقرار المنشود، فقد تعددت المشاكل من جانب عائلته وعائلة زوجته، الزوجة التي أنجبت 4 أطفال، دون أن يدفعها ذلك إلى الاعتناء بشؤون الأسرة، مفضلة حياة السهر والبذخ والحفلات التي أثقلت كاهل بوشكين.
في إحدى هذه الحفلات، وقعت ناتاليا تحت تأثير ضابط فرنسي شاب من الألزاس، يدعى جورج دانتيس، وتعددت الاتصالات بينهما، وبطريقة ساهمت في سريان همهمات وشائعات حول وجود علاقة سرية بينهما، فحاول ألكسندر الانتقام لشرفه بدعوة دانتيس إلى مبارزة بينهما، لكن هذا الأخير سرعان ما دافع عن نفسه قائلا بأنه كان ينوي التقرب من شقيقة ناتاليا، التي تزوج منها بالفعل بعد مدة قصيرة.
لم يكن هذا الزواج كافيا لإيقاف محاولات دانتيس، فتكررت محاولاته للتقرب من ناتاليا ومراسلتها، ويبدو أنها كانت مستمتعة بالوضع ولم تبد أية مقاومة أو تمنع، ورغم مراسلة بوشكين لوالد دانتيس مطالبا إياه بكبح جماح مغامرات ابنه، إلا أن مبارزة الشرف كانت واقعا قادما لا مفر منه.
يوم 27 يناير 1837، تبارز الغريمان بالقرب من نهر تشيرنايا في سان بطرسبرغ، فأصيب ألكسندر بوشكين برصاصة في بطنه، كانت كافية لقتله بعد يومين. هرب دانتيس من روسيا رفقة زوجته، أما ناتاليا لم تمض سنوات قليلة حتى تزوجت من نبيل روسي وأنجبت منه ثلاثة أبناء…
مات ألكسندر بوشكين إذن في قمة مجده الأدبي، رغم أنه لم يبلغ الأربعين من عمره، فقد أجمع النقاد على عبقرية لغته وذائقته الشعرية، وأيضا إعادته الاعتبار للغة الروسية التي خضعت في تلك الفترة لسطوة نظيرتها الفرنسية، وما زالت أعماله تحظى بنسب مقروئية عالية في جميع أنحاء العالم (أشهرها ابنة الضابط ويفغيني أونيغين وأسير القفقاس وغيرها)، كما حولته ظروف موته الدرامية إلى أسطورة روسية تتغنى بها الأجيال إلى يومنا هذا. أسطورة شعرية قضت عليها امرأة!
ملحوظة عابرة: تقول القصة إن عرافة قامت بتحذير بوشكين من أن نهايته ستكون على يد امرأة، لا داعي للتذكير طبعا بأن المنجمين كاذبون ولو صدقوا!
هذه التدوينة منشورة على موقع الجزيرة مدونات
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.