سكوانتو

في القرن السادس عشر، قامت مجموعة من المسيحيين المتدينين في إنكلترا بالهجرة إلى الشواطئ الشمالية الشرقية للولايات المتحدة بعد ازدياد حدة التوتر والنزاعات المتكررة بين هؤلاء المسيحيين والكنيسة الخاضعة لسطوة الملك، حيث طالبوا بضرورة إصلاح كنيسة إنكلترا من الداخل ومراعاة مصالح الأفراد وشؤونهم.

عربي بوست
تم النشر: 2018/02/10 الساعة 03:59 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2018/02/10 الساعة 03:59 بتوقيت غرينتش

في القرن السادس عشر، قامت مجموعة من المسيحيين المتدينين في إنكلترا بالهجرة إلى الشواطئ الشمالية الشرقية للولايات المتحدة بعد ازدياد حدة التوتر والنزاعات المتكررة بين هؤلاء المسيحيين والكنيسة الخاضعة لسطوة الملك، حيث طالبوا بضرورة إصلاح كنيسة إنكلترا من الداخل ومراعاة مصالح الأفراد وشؤونهم.

أفكار هؤلاء الإصلاحيين هددت وحدة أتباع الكنيسة وبدأت بتقويض السلطة الملكية من خلال تحطيم سطوة الكنيسة. وبعد صراع دام طويلاً، خسروا في نهايته الحرب الأهلية، هاجروا إلى القارة الأخرى، وعُرفوا حينها باسم "الحجاج"، في إشارة إلى تركيبتهم الدينية.

حملوا معهم ما يلزمهم من المؤونة، التي قدَّروا أنها ستكفيهم خلال رحلتهم البحرية، وحملوا معهم بذور المحاصيل التي كانوا يزرعونها في بلادهم، لتشكل لهم مصدر رزق يعتاشون منه في البلاد الجديدة.

قبل الوصول إلى الشواطئ الأميركية، كان الكثير منهم قد قضى نحبه؛ بسبب الظروف الجوية الصعبة، وانتشار الأمراض، وقلة الغذاء، وضعف المناعة. الجزء الناجي منهم باشر حياته الجديدة وبدأوا بزراعة البذور في الأراضي الجديدة.

ولكن، مرة أخرى ولسوء الحظ، واجه هؤلاء الأوروبيون شتاءً قارساً، كان كافياً للقضاء على آخر أمل لديهم، حيث ما لبثت مؤونتهم تنفد تدريجياً، ولم تُجدِ صلواتهم نفعاً في الحدِّ من ازدياد أعداد الموتى في صفوفهم، وتشير بعض السجلات إلى وفاة أكثر من نصف عددهم خلال الأشهر الستة الأولى من وصولهم.

يظهر أحد سكان المنطقة الأصليين، ويدعى "سكوانتو"، الذي كان قد اقتيد عبداً فيما مضى إلى إنكلترا قبل أن يتمكن من الهرب والعودة إلى موطنه الأصلي، وكان خلال تلك الفترة قد أتقن اللغة الإنكليزية هناك.

يتطوع سكوانتو وأحد أصدقائه لمساعدة الحجاج، فيعمل مترجماً بينهم وبين قبيلته، ويكشف لهم أحد أسرار نجاح الزراعة في الأرض شديدة البرودة والظروف المناخية الصعبة، حيث كانوا يستخدمون أحشاء السمك كسماد عضوي. أرشدهم أيضاً إلى زراعة حبوب الذرة والفول واليقطين، والكثير من المحاصيل التي لم تكن معروفة في أوروبا آنذاك والتي تشكِّل المصدر الأول والرئيس للغذاء في أميركا.

لقد أظهر سكوانتو تفوقاً حضارياً وأخلاقياً، وكان له الفضل الأول في المحافظة على حياة الحجاج الأوروبيين وضمان بقائهم. وبعد نجاح عملية الزراعة وموسم الحصاد الأول، أقام الأوروبيون مع الأميركيين الأصليين عيد الشكر؛ ليشكروا الله على نجاتهم، والذي أصبح اليوم عيداً سنوياً يُحتفل به في كل أرجاء أميركا.

هذه القصة تحمل الكثير من المعاني والقيم والفضائل الحسنة، لننظر بقليل من التفصيل. الأوروبيون المسيحيون تركوا أموالهم وديارهم وتجارتهم وذهبوا في رحلة إلى المجهول؛ خشية على دينهم، وليبحثوا عن أرضٍ يمارسون فيها حريتهم الدينية بشكل طبيعي ودون التعرض لمضايقات. عندما يُفتن الإنسان المؤمن في دينه يبدو أنه يستطيع التخلي عن كل شيء في سبيل المحافظة على معتنقاته، رغم أنهم كانوا من طبقة الأثرياء والشرفاء.

هذا الأميركي الذي أُخذ من موطنه ودياره عبداً إلى المكان الذي أتى منه هؤلاء الأوروبيون، ألم يكن من الأجدر به أن يجد في قدومهم فرصة للثأر واسترداد الحق؟ ألم يكن بإمكانه أن يشن الغارات عليهم هو وقبيلته ويجهزوا عليهم؟ ألم تأتِه الفرصة أمامه للانتقام؟ لكن، ماذا فعل؟ كان النقيض تماماً؛ كان أول من مد يد العون لهم وكان وسيلة الاتصال بينهم وبين السكان الأصليين؛ بل وكشف لهم أسرار النجاة.

إذا تساءلنا: ما الذي يدفع بهذا الأميركي إلى أن بقوم بذلك؟ فقد نجد الكثير من الدوافع والأسباب، وأولها قد تكون دوافع إنسانية نابعة من أخلاق حسنة قد تكون نشأت معه وهو الذي لا ينتمي إلى أي دين توحيدي؛ بل أغلبهم كانوا يعبدون الأوثان والطبيعة والحيوانات، أو ربما كان تلقى معاملة حسنة في الفترة التي قضاها بين إنكلترا وإسبانيا بعد أن فرَّ من العبودية وقبل أن يستطيع العودة إلى موطنه. وربما أسدل إليه أحدهم معروفاً أنقذ فيه حياته، ربما أدرك أن هناك دائماً الحسن إلى جانب القبيح.

الخلاصة، أنه لا يمكن لنا الحكم على الناس من معتنقاتهم وأشكالهم وألوانهم، وأن المعروف حتى لو كان قليلاً، لا تستهِن به، فقد يثمر في يوم من الأيام وسيعود لك يوم تكون في أمسِّ الحاجة إليه.

وفي ملاحظة أخيرة، البذرة الصالحة تبقى صالحة، لكن الأرض قد تكون مقفرة؛ لذا لا تيأس كلما حاولت بذر بذور الخير ولم تلقَ حصاداً، ليس عليك أن تغير البذار أو تغير الأرض؛ فهذه مواردك المتاحة، لكن فتِّش عن أدوات جديدة وعوامل مساعدة، لا تتردد في سؤال غيرك إن كنت لا تعرف، ولا تتقاعس إن لم تجنِ ثماراً، طوِّر من أساليبك وأدواتك، كن شخصاً قابلاً للتجديد، العمل الصالح سيؤتي أكله ولو بعد حين فلا تستعجل.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد