درست "النحو" في كلية دار العلوم على عدد كبير من الأساتذة الأجلاء، أذكر منهم على سبيل المثال مع حفظ الألقاب، عبدالرحمن السيد وعبد الرحمن شاهين -الأخ الأصغر لعبد الصبور شاهين- والليثي والمختون.
وكنا طوال الوقت نشكو من النحو وصعوباته، وكنا نعرف أن السبب هو تشتت موضوعاته بين الأساتذة، وسوء طرق العرض، وغرابة الشواهد وصعوبتها.
المهم ظل الملل يزداد والتذمر كذلك، ونحن ننتقل من أستاذ لآخر، ومن كتاب لآخر حتى وصلنا إلى الدكتور محمد عيد -رحمه الله- وكتابه العلامة "النحو المصفّى"، فاكتفينا به وبكتابه الذي كان كعصا موسى، ومزّقنا كل الملازم والتلاخيص، وألغينا خطط التأليف في تسهيل صناعة النحو.
وأجمل ما في "النحو المصفى" أن الدكتور عيد درس كل كتب النحو القديمة ثم وضع منهجاً محكماً لتصفية هذه الكتب ثم التخلص مما لا فائدة منه لتصحيح النطق والكتابة فحذف المجادلات والاستطرادات والخلافات حول العلل والعوامل والتخريجات الظنية وركز فقط على جوهر كل موضوع وخطه الواضح الأصيل، ثم نظم هذه الأفكار المصفّاة في كل موضع وقدمها بطريقة متكاملة، فكان يلخص الفكرة العامة لكل باب ثم يفصل الفصل كله وكل هذا بأسلوب معاصر سهل رائق فلا غموض ولا كزازة ولا معاضلة.
ومن الأشياء اللطيفة أيضاً أنه خلّصنا من "زيد وعمرو" وجاء بأمثلة واضحة من عصر الاستشهاد وما بعده حتى من الأدب العربي الحديث.
وبالتالي تمكن الرجل من "تصفية النحو من أوشابه وعلاجه من أوصابه، والكشف عن وجهه الصحيح المشرق".
وقد بارك الله في جهد المؤلف فاشتهر الكتاب شهرة عريضة فاقت مؤلفه الذي بات يعرف بلقب "صاحب النحو المصفى"، رغم أن له كتباً أخرى كثيرة.
والآن هو من أكثر كتب النحو انتشاراً في العالم العربي وعلى الإنترنت، ومما يجعلني أبتسم أن بعض مَن يجهلونه يطلقون عليه لقب شيخ.
الرجل -رحمه الله- لم يكن شيخاً على الإطلاق، بل كان أستاذاً جامعياً بارزاً وعلامة من علامات الدرس النحوي في القرن العشرين.
وأذكر أنني رأيت الدكتور محمد عيد آخر مرة في فبراير/شباط سنة 2003، وكانت الشيخوخة قد نالت من جسده، ولكن ظل كالعهد به ذا عقل يقظ وروح خفيفة.
وأذكر أنه اشتكى من أن "النحو المصفى" يسرق شرقاً وغرباً ويطبع بآلاف النسخ دون أن يحصل من الناشرين السارقين على حقوقه.
وأذكر أن الدكتور حماسة طيّب خاطره بأنه لذلك محسود مغبوط، وأن الجميع وهو أولهم يتمنون لو أن هؤلاء الناشرين اللصوص في الشرق والغرب نظروا بعطف لكتبهم وسرقوها عياناً بياناً مثل "النحو المصفى".
نسيت أن أذكر أننا كنا ندرس نسخة مكتبة الشباب سيئة الورق والتغليف حتى تفككت واهترأت من كثرة الاستعمال، لكن لماذا أكتب هذا كله؛ لأن الأقدار أسعدتني منذ فترة قصيرة بنسخة فاخرة من الطبعة الجديدة المنقحة والمجلدة التي أصدرتها عالم الكتب.
ولأنني أعرف أن عالم اللغويات الروسي الشهير رومان ياكوبسون ذكر مرة في ترجمته أنه عزم في الرابعة عشرة من عمره على أن يكون ناقداً ومنظراً أدبياً، ومن ثم كان عليه كما قال أن يغوص في بحار اللغة فأخذ سلفة من عمه واشترى لنفسه معجماً لغوياً وكتاباً في القواعد وكتاباً ثالثاً عن فلسفة اللغة، وأنه عكف على الكتب الثلاثة طويلاً، وفي النهاية وجد نفسه يميل إلى جانب اللسانيات فتخصص فيها وبرع حتى أصبح رأس مدرسة ذات تأثير ضخم في ثقافة القرن العشرين، أعني الشكلانية الروسية.
وعن نفسي دائماً ما أنصح طلابي كبداية بضرورة امتلاك نسخة من "النحو المصفَّى" وأخرى من "المعجم الوسيط"، ويا حبذا لو كانت طبعة المكتبة الإسلامية بإسطنبول فهي أفضل إخراجاً من الطبعات الأخرى حتى من طبعة المجمع نفسه.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.