مقيتة هي بطبيعتها الأكاديمية الجافة التي يتداولها أصحاب أربطة العنق المنمقة، ومع أني واحد منهم، إلا أنني أؤمن أن العلم الذي لا يخرج إلى الناس بعمومهم يظل رهن تلامذتك وطلبتك، إن شاءوا بلغوه وإن شاءوا نسوه.
فشمرت عن ساعد الجد وعزمت أن أكتب هذه المدونة الجافة بأسلوب أتمنى أن يفهمه الجميع.
في عجالة سريعة، ذكرت في فصلي بالأمس أن أغلب نظريات الإدارة نشأت من قديم في القرن الثامن عشر، ومنهم الأب الروحي لعلم الإدارة آدم سميث.
وتستعجب أن أغلب قوانين أميركا في إدارة الشركات الضخمة قد أصدرت وقت الكساد العظيم الذي لحق بأميركا في ثلاثينيات القرن المنصرم.
كان الناس يأكلون من صناديق القمامة نتيجة البطالة غير المسبوقة، في هذا الوقت تحديداً عكفت فيه نخبة قانونية تكتب قوانين لإدارة الشركات العملاقة وأقرها الكونغرس الأميركي في وقتها.
أقول إنه إلى أن يأتي وقت تستقر فيه الأمور وتراجع فيه أعمالاً كتبت للمستقبل وليست للحاضر، سيكون لهذا الجيل ذخيرة أرجو الله أن يستفيدوا منها.
الآن نبدأ المدونة:
رفع المحاضر قلمه الأزرق أمام طلبة الماجستير والدكتوراه، وقال: "ما لون هذا القلم؟"، الجميع أجمعوا على أن لونه أزرق. قال: "ماذا لو قال أحدكم إن لونه أسود، ما تظنون به؟"، قالوا: إن أغلب الظن أنه مصاب بعمى الألوان. قال: "هل تعلمون أن نسبة عمى الألوان تصل بين الرجال إلى ٨٪، يعني بين كل ١٢ رجلاً، واحد يرى اللون مغايراً لم يره الباقي. والعجيب أن عمى الألوان يصيب النساء بنسبة ضئيلة ٠٫٥٪ (أكيد نحتاج النساء لإعادة النظر في كثير من شؤوننا).
المحاضر فاجأ الجميع بسؤال آخر: "ما يدريكم وقد أجمعتم أن القلم أزرق أنه بالفعل أزرق؟ هل هناك فرصة أن تكونوا جميعاً مخطئين؟ هل هناك فرصة أن يكون اللون أسود؟". يبدو أن السؤال لم يصب هدفه والعيون تحملق في سقف الحجرة. لم يعطهم المحاضر فرصة لالتقاط الأنفاس فبادرهم بسؤال آخر: "إذاً ما تعريفك للون الأزرق؟".
المحاضر عزا أسئلته إلى "نظرية الظواهر في التحليل الكيفي[فينومينولوجي – phenomenology]"، مختصرها أن تعريف الأشياء يعكس التجربة الشخصية معها. بمعنى أن الأطفال إذا تعلموا أن اللون الأزرق اسمه أسود، فإن ذلك يرسخ في أذهانهم أن لون البحر أسود، ولون السماء أسود كذلك. إذاً الحقيقة المطلقة في توصيف الأشياء تظل حبيسة تصور الإنسان. وهذا يعود إلى تراثنا في مقولة "الحكم على الشيء فرع عن تصوره"؟ هذه القاعدة لا تغاير كلام المحاضر، فالحكم على الشيء هو "توصيفه" وتصوره هو "خبرتك به".
في علم البحث الكيفي وجدوا أن الخروج من هذا المأزق يلزمه دليل دامغ يخرج الباحث من تجربته الشخصية إلى الحقيقة المجردة. وجدوا أن التوصيف المبسط من شريحة مشاركين (في البحث) بسطاء هو أقوى دليل لتوصيف الأشياء أو الأحوال دون انحياز. ولأن الحديث في هذه المدونة عن النخبة المثقفة كان لزاماً أن نعرف أن انحيازها سيؤدي حتماً إلى اعوجاج في مفاهيم أساسية كان مفترضاً فيها ألا تتزحزح تماماً كحجر الأساس لبناية الوطن المجتمعي.
إذاً الطرح الآن هو كيف نفرز نخبة مثالية؟
أقول: إن مثالية النخبة تقع أول ما تقع بالتصاقها بثقافة الشعب الذي تنتمي له، والتي قد أفرزت نتيجة تعاليم دينية وعادات متفق عليها وأصول لا ينبغي تجاوزها.
وفي حديثي أعلاه عن التحليل الكيفي ترى أن الدليل القاطع يخرج من فم البسطاء؛ لأنهم لا ينمقون كلامهم ولا يبالون كثيراً بترحيب أو انزعاج المستقبل لكلامهم. فمثلاً رأينا أن كثيرين كانوا يلقبون خالد محيي الدين، المشتهر عنه أنه يساري، بالحاج خالد. ويقول الدكتور حامد أبو زيد في كتابه "نقد الخطاب الديني": "إن الارتحال من اليسار إلى اليمين داخل بنية الفكر الديني طال كثيرين غير سيد قطب. ويكفي أن نذكر هنا بعض الأسماء مثل: خالد محمد خالد، ومحمد عمارة". وأنا لا أجد غباراً على هذا الكلام بشرط ألا يخرج إلى عموم الناس إلا باتفاق على حقائق الإسلام وقواعده.
الآن نبحث عن مصداقية النخبة المثقفة، هنا نرى أن علاقة النخبة المثقفة بالشعب أساسها مراجعة الأفكار الدائمة. فعوام الناس لها عقول بسيطة وهذا مصدر قوتها، في حين أن النخبة لها عقول معقدة التركيب وهذا أيضاً مصدر قوتها. إذاً كيف تتفاعل النخبة مع البسطاء (العوام)؟ الإجابة في رأيي أن النخبة بدايةً لا بد لها من مرعى ومسقى صحي بسيط حتى تجري في عروق الأدمغة من بداية نموها دماء صافية تنتمي للتربة التي تناشدها وتخاطبها. هذا لا يمنع أن استسقاء الثقافة الأجنبية فيما بعد يسيء إلى النخبة، بل على العكس، فإن هذا يثري الفكر وينمي التعامل مع العالم الخارجي.
لكن قبل أن نبحث عن نخبوية أجنبية، كان أحق بهذه النخبة الاختلاط والاستماع والاحترام بنخبنا التي أنتجتها مشارب أخرى. وأزعم أن "التشنج" كان عنوان مناظرات الستينات، أي سبعينات القرن المنصرم، بل حتى هذا القرن لم يتغير كثيراً من انفعالات النخبة في احتكاكها بعضها ببعض.
في تقديري هذه المناظرات ما كانت أن تكون علنية البتة، فدائماً هناك منتصر ومنهزم ومعهما لا يذكر الحاضرون كثيراً عن الحق الذي حضروا من أجله.
للأسف فإن الجميع سقطوا في هذه الخطيئة وقد استجابوا دون أن يدروا لنداء تقسيم المجتمع بجدارة.
المنصف المرزوقي، رئيس تونس السابق، أجاب في إحدى محاضراته عن سؤال "لماذا نجحت ثورة تونس وسقطت بمصر؟". أجاب بأن النخبة التونسية على اشكالها وألوانها المتعددة، والتي طردت خارج البلاد زمن زين العابدين، اختلطوا وتحادثوا وتجادلوا فكان نتاج ذلك خطوط التقاء كثيرة لم يعرفوها وقت تنافسهم على ثقافة الشعب التونسي وهم بداخل الوطن. فلما عاد الجميع للوطن كانوا متقاربين ومتفقين على الخطوط العريضة دون عناء، وقد أدهشوا الشعب بروعة أدائهم. إنه درس للنخب العربية التي لا بد لها من التواضع والتقارب والتآخي، لا يلزمهم أن تقوم حرب أهلية حتى يفيق الناس أو مصيبة لا يفيق منها الناس حتى تراجع النخبة موقفها.
ولأن كثيرين يحسبون على النخبة المثقفة، فقد تركت بين يدي القارئ معياراً يعرف به النخبة من غيرها، فإذا رأيت المثقف يجد عذراً لنده فيما يرى، وأنه يتفق معه في بعض الأشياء ويختلف معه في أخرى، وأنه يتقارب معه ويشد على يده، وأنه يعتذر عن عدم استيعابه لكل الأمور مما دعاه لاتخاذ موقف ندم عليه، إذا رأيت مثل هذا المتحدث أو الكاتب أو الخطيب أو رجل الدين، فإنه يمثل النخبة البناءة التي تستمع لها وتستجيب لأفكارها.
اسمحوا لي أن أختم بكتاب الله لأعود بكم إلى فكرة المحاضر والحديث عن البسطاء. ففي تساؤلات لا تحتمل أكثر من إجابة صحيحة واحدة، تجد رب العالمين يتحدى عباده ويردهم إلى صوابهم، فيسألهم: "وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ" [العنكبوت- ٦١] و"وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ ٱللَّهُ" [لقمان – ٢٥] و"وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ ۖ فَأَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ" [الزخرف – ٨٧]. الأسئلة البسيطة لأناس بسطاء عادلين هي التي تؤدي إلى الحقيقة المجردة، وهذا هو التحدي الحقيقي للنخبة المثقفة، فهل من مدكر؟
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.