منذ نحو شهرين نشرت وكالة أبحاث الفضاء الأميركية (ناسا) على تطبيق "ساوند كلاود" (sound cloud) أصواتاً فضائية كانت أجهزة مكوكها الفضائي قد التقطتها لدى مروره بجوار كوكب المشتري في 2016، هذه الأصوات كانت في الأصل موجاتٍ راديوية (Radio waves) قام العلماءُ بتحويلِها لاهتزازات ميكانيكية (تضاغطات وتخلخلات هوائية) ليمكنَ فهمُها وإدراكُها، حيث إنَّ آذاننا البشرية لا تستطيع إدراك الصوت إلا في هذه الصورة.
وقد وُصِفَتْ تلك الأصواتُ الكونيةُ بالمرعبة والمثيرة للفزع والهلع، وسبحان من خلق آذاننا البشرية بحيث تعجز عن استقبال وتمييز سوى حيزٍ محدودٍ جداً من الموجاتِ التي تحيطُ بنا، ولولا هذا لأصيبَ الإنسانُ بالجنون، بل ولعجز تماماً عن النوم (حاسة السمع هي الحاسة الوحيدة التي لا تتعطلُ حتى أثناء النوم)، ويحتملُ أنَّ تعطيلَ السمعِ كان من لوازم استغراقِ أصحاب الكهف في نومهم الطويل "فضربنا على آذانهم في الكهف سنين عدداً" الكهف: 11.
نفسُ الأمر يتعلق بالبصر أيضاً، فلو كانت عينُ المخلوق مصممةً بحيث تستطيعُ رؤيةَ الأشياء بواسطة كل الطيف الكهرومغناطيسي لرأى الإنسانَ ما يصيبُهُ بالجنون المحتوم بل ربما فقد بصره تماماً (طول موجة الضوء المرئي نصف جزء من مليون جزء من المتر) وهو حيزٌ محدودٌ جداً داخل المجال الكهرومغناطيسي electromagnetic spectrum.
والواقع أن الصَّوتَ عبارةٌ عن طاقة، وأن عدداً مهولاً من الموجات الصوتية يحيط بنا، لكننا لا نسمعُهَا جميعاً؛ لأن آذاننا البشرية صممت بحيث تعجز عن التقاط الموجة الصوتية التي يقل ترددها (عدد الذبذبات في الثانية) عن 16 هيرتز أو يزيد عن 20 ألف هيرتز (ومعظمنا لا يسمع الصوت بتردد فوق 15 ألف هيرتز).
كما أن الأذن البشرية مصممة بحيث لو قلَّت شدة الصوت عن 20 (ديسيبل) شقَّ سماعُه، وإذا زادت عن 150 (ديسيبل) فإن الإنسان يشعر بآلام حادة في الرأس قد تؤدي به إلى الإغماء وربما انفجار المخ ومن ثم الوفاة!
ولهذا فقد أخطأ بعض علمائنا حين عرَّفوا صفة السمعِ في حق الله تعالى على أنَّهَا كشفُ المسموعات، كما هي في حق المخلوق!
هذا والمسموع لا يكون مسموعاً (اسم مفعول) إلا إذا استقبلته آذان المخلوق ثم قام دماغه بتحليله ومعالجته (analysing & processing) تمهيداً لفهمه وتمييزه، وهذا يختلف من مخلوق لآخر، فبعضُ الحيواناتِ (الخفاش) تسمعُ ما لا يسمَعُهُ الإنسانُ، والجنُّ كذلك يسمعُ ما لا يسمَعُهُ الإنس، وهكذا.
ثم ضلَّ كثيرون حين نسجوا على منوال الشيخ ابن تيمية صاحب نظرية (ثبوتُ ذاتٍ لا تشبه الموجودات بوجه من الوجوه ممتنع في العقل!) فتوهموا (الشيخ ابن عثيمين وغيره) وجهَ مشابهةٍ بين صفة الخالقِ وصفة المخلوق، على أساس أن "زيد" يسمع "عبيد" وهو يتكلم بجواره، وكذلك يسمعُهُ رب العالمين!
والحقُّ أن الاشتراك بين الخالق والمخلوق في صفة السمع (وغيرها) إنما هو في اللفظِ لا غيرُه!
هذا ولا يجوزُ لمسلمٍ أن يزعُمَ وجود وجه مشابهةٍ بين الله تعالى وبين أحد خلقه لا في ذاته ولا في شيء من صفاته، ولا في شيء من لوازمها (ليس كمثله شيء وهو السميع البصير) الشورى: 11.
وإلا فقد جهل أولئك وهؤلاء أن طبلة أذن الإنسان تهتزُّ في حيزٍ لا يمكن لبشر أن يدركه (جزء من عشرة مليارات جزء من السنتيمتر)، وأن ثلاثة عُظَيمَاتٍ مُتَّصِلةٍ بها تتحركُ بذبذبةٍ قدرُها عشرون ألف حركةٍ في الثانية الواحدة بلا توقف أبداً، لتنقل هذه الذبذبات الميكانيكية (الصوت) في وسط صلب ثم سائل بسرعة تفوق السرعة التي ينتقل بها الصوت في الهواء )343 متراً في الثانية)، وذلك إلى مركز السمع في الدماغ الذي يحولها بالتالي إلى نبضاتٍ كهربيةٍ تستقبلُها مراكزُ الأعصاب لتصبح محسوساً مدركاً، وكل تلك العمليات المتوالية المذهلة تتم في جزءٍ من مليون جزء من الثانية.
وكل هذا يتم بكيفية لم يصل إلى إدراكها بشرٌ حتى يومِنَا هذا، فإذا كنّا نجهلُ ماهية السمع في حق المخلوق، فهل ندركه في حق الخالق؟ ثم كيف يتصور هؤلاء إمكان وجود تشابهٍ في صفة السمع أو في شيء من لوازمِهَا بين المخلوقِ والخالق؟ سبحانه (وما قدروا الله حق قدره) الزمر: 67.
الخلاصة: وفق المفهوم الكلاسيكي للصوت.. كان علماؤنا الأوائل يقولون قديماً: اللهُ تعالى يسمعُ دبيبَ النملةِ السوداء، على الصخرةِ الصَّمَّاء، في الليلةِ الظَّلْمَاء.
هذا وقد كشف لنا العلمُ الحديث (الفيزياء – الطب – الفلك) أن شأن "السمع والمسموعات" أعظم بكثير من كل ما تصوره الأوائل، وأن الفضاء الخارجي يَعُجُّ بملايين الأصوات رغم عدم وجود وسط لتنتقل من خلاله، والأيامُ حبلى لا ندري ما تضع!
والحقُّ أن مفهوم السمع في حق الله تعالى، فضلاً عن كيفيته، مما تعجزُ العقولُ عن معرفته، وتحارُ الألبابُ في إدراك ماهيَّتِه، ولذا كان تفويضُ عِلْمِهِ إلى الله تعالَى أسلَمَ وأحفظَ للدين والعقل، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تفكروا في آلاء الله ولا تتفكروا في الله"، هذا والله تعالى أعلى وأعلم.
بعض المصادر المتعلقة بالموضوع:
الأصوات التي أذاعتها ناسا:
المجال الكهرومغناطيسي electromagnetic spectrum:
اختبار مستوى السمع
خطبة معجزة السمع بين غشاء الطبل وجدار الجهل للدكتور عدنان إبراهيم
حلقة معجزة الصوت (من برنامج العلم والإيمان للدكتور مصطفى محمود)
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.