أعاد قرار الرئيس الأميركي دونالد ترامب الاعتراف بمدينة القدس عاصمة للكيان الصهيوني ونقل السفارة الأميركية إليها، ومن ثمّ كافة المصالح الدبلوماسية تباعاً مع ما قُوبل به من ردود دولية أو أممية ضعيفة للغاية انحصرت بين التنديد والإدانة، اللهم إلا قراراً أممياً وحيداً برفض قرار الولايات المتحدة، سببت إحراجاً حقيقياً للكبرياء الأميركي على الصعيد الدولي.
القرار أعاد للأذهان الحديث حول ضرورة زيارة المسجد الأقصى والقدس، وهو ما يحمل إشكالية راجحة بين اختلاف الآراء التي تنادي بأهمية زيارة المدينة التى ذاقت الأمرّين من حسرة المقاطعة العربية والإسلامية وبين رأي أراه سلبياً للغاية يدعو إلى عدم مشروعية الزيارة مع وجود الاحتلال الإسرائيلي، واعتباره تطبيعاً مع الاحتلال، بل واعترافاً صريحاً بالكيان المستوطن في أرض فلسطين.
البعض حاول الربط بين زيارة المدينة المقدسة في كل الأديان وبين التطبيع مع دولة الاحتلال، رغم أن الزيارة لا تعني أو ترتبط بأي حال من الأحوال مع مسمى التطبيع، إنما هو الذهاب للأراضي الفلسطينية والاعتراف بإسرائيل وإقامة علاقات دبلوماسية كاملة، بل توطيده والعمل على إزالة العقبات بين الثقافات المناهضة، وإقامة علاقات اقتصادية وسياحية مشتركة تعود بالنفع على حكومة الاحتلال، ولا يخفى المسمى الآخر للأمر وهو بالمعنى الطبيعي "جعل العلاقات طبيعية"، بعد فترة من التوتر أو القطيعة لأي سبب كان.
المؤسسات الدينية، لا سيما الأزهر الشريف، كانت لها الأطروحات القاطعة بالأمر دون الانسياق أو المثول إلى رأي آخر، فمنهم على سبيل المثال الشيخ عبدالحليم محمود، شيخ الأزهر الراحل، الذي تولى من 1973 حتى 1978، عندما رفض أن يكون مع الرئيس الراحل محمد أنور السادات في زيارته للقدس، وهو أمر يفتقد الحكمة شكلاً ودليلاً، فلا يخفى على أحد أن الأوضاع في الداخل المصري وعلى الصعيد العام كانت تشير إلى ضرورة إتمام عملية السلام، وشيخنا الشيخ جاد الحق علي جاد الحق، شيخ الأزهر ومفتي مصر الأسبق الذي تولى من عام 1982 حتى عام 1996، قال إن من يذهب إلى القدس من المسلمين آثم آثم.. والأولى بالمسلمين أن ينأوا عن التوجه إلى القدس حتى تتطهر من الاحتلال، والسؤال: هل تتطهر القدس من دنس المغتصب إلا بمزاحمة صاحب الأرض للسارق؟
قِس على هذا موقف الشيخ محمد سيد طنطاوي، شيخ الأزهر الراحل، تولى من عام 1996 حتى عام 2010؛ حيث قال: "إن تلك الزيارة لن تتم في ظل الاحتلال الإسرائيلي، وإن ذلك ينطبق على كل علماء المؤسسة الأزهرية الذين يتبنون الموقف نفسه، وأرفض زيارة القدس وهي مكبلة بسلاسل قوات الاحتلال الإسرائيلي؛ لأن زيارة أي مسلم لها في الوقت الراهن يُعد اعترافاً بمشروعية الاحتلال الإسرائيلي، وتكريساً لسلطته الغاشمة"، فضلاً عن الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب شيخ الأزهر الحالي، تولى منذ عام 2010، قال: "إن زيارة القدس لا تحقق مصلحة للمسلمين؛ لأنها في ظل احتلال إسرائيلي وبإذن من سلطات الاحتلال".
لكن الغريب أن الإقرار بعد مشروعية زيارة القدس كان اجتهاداً فقط دون الاستدلال بأمر شرعي واحد على الأقل، فلا يوجد مانع يمنع زيارة الأراضي الواقعة تحت الاحتلال، إلا أن الأمر كان هواء من هولاء المشايخ أي أنهم بهذه الفعلة قد يكونون ناصرين للقضية الفلسطينية وهو أمر غاية في الخطأ، ولا يعني إلا الاستسلام الفعلي وترك القضية برمّتها معلقة في اللاشيء.
منذ أيام التفتّ إلى مقال لوكيل الأزهر عباس شومان، يدافع دفاعاً جماً عن عدم خروج مؤتمر الأزهر والذي كان تحت اسم نصرة للقدس، بأي توصيات أو قرار يتعلق بالسماح بزيارة المدينة، إلا أنه أشار خلال المقال إلى الموقف الرسمي للأزهر هو رفض زيارة القدس تحت الاحتلال؛ حيث لا مصلحة في ذلك، بل إن زيارة القدس في ظل احتلال غاشم يريد القضاء على كل المعالم الإسلامية والمسيحية والتاريخية والحضارية بالمدينة تترتب عليها مفاسد جسيمة، ومضار عظيمة ونتائج وخيمة، مشيراً إلى وجهة نظره بأن زيارة المدينة تتعلق برأي المقدسيين ورأي السياسيين.. سؤال: وماذا جنينا من مقاطعة القدس؟
الإجابة هنا، سأجيب نيابةً عن وكيل الأزهر.. في بحثا للكاتب الفلسطيني الكبير والناقد أحمد أبو مطر "رحمه الله" يقول إن من نتائج المقاطعة أن القدس التي كان عدد سكانها عام 1967 يزيد عن 350 ألف مواطن فلسطيني، اليوم لا يوجد فيها أكثر من خمسة وخمسين ألفاً. وهي في بحث آخر للدكتور حسن خاطر بأن نسبة السكان في 1967م كانت 4 فلسطينيين مقابل 1 إسرائيلي، وبعد أكثر من 40 سنة من مقاطعتنا للقدس صار عدد الإسرائيليين 4 مقابل 1 فلسطيني، ونسبة نزوح الفلسطينيين من القدس وصلت إلى 50%، وتعدت نسبة الفقر 70%.
وإذا كان الأمر يتعلق برأي المقدسيين فليس لأحد حق في الرأي مثل وزير الأوقاف والشؤون الدينية الفلسطيني الشيخ يوسف أدعيس، الذي كلّ في قمة من دعوة الأمة العربية والإسلامية لشد الرحال للصلاة في المسجد الأقصى تأكيداً على عروبة المدينة المقدسة ورفض اعتبار زيارة القدس تطبيعاً مع إسرائيل، مقارناً إياها بـ"زيارة السجين ليست تطبيعاً مع السجان"، ومهما كانت الظروف يجب زيارة القدس مساندةً لأهلها وتأكيداً على هويتها العربية الفلسطينية، أما عن الآراء السياسية فأعتقد أننا لسنا بحاجه لآرائهم في هذا الشأن، فهم أنفسهم يعملون على كسر حاجز التطبيع بين الدول والكيان إيماناً بضرورة اتباع السبل السياسية لحل القضية الفلسطينية وإنهاء الصراع العربي – الإسرائيلي.
أخيراً -مَن أول السطر- إن زيارة القدس لا تعني تطبيعاً، ولا تعني اعترافاً بدولة الاحتلال، إنما تعني أن القدس ما زالت تحظى بنصيب من هويتنا العربية والإسلامية، فما أوصلنا إلى ذلك إلا أننا لم نزاحم هؤلاء المحتلين في أرضنا التي هي حق لنا من الأساس، فتركناها مرتعاً لهم يمارسون عمليات التهويد للمدينة بأريحية شديدة، وواصلوا محو تراثنا العربي والإسلامي من المدينة دون أن نعلم أننا بهذا المقاطعة نقضي على ما تبقّى لنا من تاريخ القدس.
فبالله إن استمرت تلك المقاطعة فانتظروا هلاكاً مؤجلاً.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.