ارتبطت قصّتي مع قطر منذ وقت مبكر منذُ ما زلت في اليمن، كانت قطر حاضرة في ذاكرتي من خلال مشاريعها في اليمن، كنت أجدها في المسجد والمدرسة والمستشفى والمنافع الإنسانية والمشاريع الخيرية والتعليمية، أو من خلال الفعل السياسي ومساندتها لمشروع الثورات في بلدان الربيع عموماً، وخصوصاً في الثورة اليمنية، وقد لعبت بذلك قناة الجزيرة حينها دوراً عظيماً في رفع صوت الثورة وإعطائه زخماً وصدى على الصعيد المحلي والإقليمي والدولي، وساهمت في إبقاء وهج الثورة مهيمناً.
كانت الصورة الذهنية الإيجابية التي رسمتها في مخيلتي في كون قطر تحتضن نخبة من حملة الفكر والمثقفين وأصحاب القدرات والمهارات الإبداعية، وخصوصاً في الجانب الإعلامي كونه تخصصياً، وسعيها الجاد في استقطاب العقول، ما عزز لديّ الرغبة في العيش فيها ومواصلة مشروع دراساتي العليا في الإعلام.
فقدمت إلى معهد الدوحة للدراسات العليا سعياً لتحقيق ذلك الطموح، ثم انتقلت بعدها إلى كوالالمبور – ماليزيا – وكنت عن قرب أميل كثيراً لمتابعة الشأن القطري، تحديداً منذ حصار قطر، وأبديت اهتماماً كبيراً لظروف الحصار وما قد يترتب عليه، وكيف يمكن أن يؤثر على قطر حكومة وشعباً على مختلف المستويات.
وكانت متابعة الحركة السياسية في منطقتنا العربية من أبرز اهتماماتي؛ لذا دفعت اهتماماً كبيراً لمتابعة تلك الأحداث المتسارعة من خلال كتابة ونشر بعض المقالات في محاولة لتوصيف حالة الحصار وأهدافها وتوقيتها، بالتزامن مع حركة تحوّل المشاريع السياسية في منطقة الشرق الأوسط عموماً بعد ثورات الربيع العربي.
ومن خلال متابعتي واهتمامي لفترة الحصار كنت أتابع عن كثب الكثير من الناشطين اليمنيين والعرب حول زياراتهم لقطر والحديث عن انطباعاتهم عن الإقامة في قطر، وعن تعامل القطريين معهم ومقارنتها بدول أخرى يقيمون فيها، وحديثهم عن عدم شعورهم بالغربة بل الشعور لهذا التراب بالولاء الذي لا يختلف كثيراً عن شعورهم نحو بلدانهم الأم، إلى جانب متابعتي لمختلف الجاليات التي خرجت إلى الشوارع تعبيراً عن تضامنهم وحبهم نحو قطر، وهذا ما لا تلاحظه في كثير من بلدان العالم، فالغربة كربة وضيق ومشقة، وهذا ما انتفى الشعور به في قطر، كنت أظن حينها أن الأمر ربما فيه ثناء وحمد نتيجة حالة شعورية لحظية سرعان ما تختفى، إلا أن الأمر تغير لديَّ حينما هبطت في أراضيها، في ذلك الوقت تحديداً كأني لامست تراب صنعاء (العاصمة اليمنية، (وإب) محافظة إب وسط اليمن وتسمى اللواء الأخضر، وهي محافظتي التي أنتمي إليها) أو هكذا خُيّلَ لي حينها.
آلمتني الغربة كثيراً في ماليزيا برغم الجمال الذي يحتفي به البلد حتى إنك ترى جمال السماء وكأنه تجسّد في تلك القطعة من العالم وحسب، إلا أن شعور الاغتراب رافقني مذ وصلت لها حتى غادرتها.
في الدوحة لفت انتباهي الكثير وأثار دهشتي وإعجابي الكثير كذلك، في الدوحة وجدتني كأنني في بلدي الآخر؛ عراقة وطيبة الإنسان القطري في شعوره نحو المقيم على أراضيه وتذويب فوارق الشعور بوجودك في أرض غير أرضك؛ حيث تتجسد ثنائية الإنسان القطري على الصعيد الرسمي والشعبي في اعتزازه بشعبه وبمقيميه على السواء، شعور الإنسان بكونه جزءاً من هذا المجتمع يعمق الإخلاص والولاء، ويسهم في اندماجه في التكوين المجتمعي الذي يعزز من صحية عملية التفاعل المجتمعي الساعية إلى السمو بالبلد وتحقيق أمنه وعزته ونهضته.
في الدوحة نصافح فيها هويتنا العربية والإنسانية كل لحظة في مساجدها ومتاحفها ومكتباتها وأسواقها الشعبية القديمة التي تجسّد عراقة الإنسان العربي والحفاظ على إرثه التاريخي والقيمي وهويته الأصيلة، تحيينا هويتنا العربية في سوق واقف كل صباح ومساء ببنائه الذي يحاكي إرث الهوية القديمة لعروبتنا المتمثلة في البناء المعماري القديم، وتشكيلات قوارب الصيد والسيوف والمنحوتات الرمزية والنقوش والفنون التشكيلية والأزياء الشعبية والأزقة الضيقة التي تتجول فيها برفقة التاريخ، ولسان هويتك يسرد حكايات الماضي الذي سبقك وربما الذي لا تعرف عنه الكثير، هنا في زيارتك لسوق واقف أنت في ضيافة التاريخ، أنت في حضرة هويتك العربية التي تتجاوز حدود الجغرافيا، وتعيدك إلى عاملك المشترك كإنسان عربي صاحب تاريخ ورسالة وهوية خالدة.
إن كل ذلك الزخم الثقافي والهوياتي يعمق الهوية العربية في ذاكرة أبنائها، وخصوصاً الجيل الصاعد الذي ينشأ بصحبة تاريخه سواء بسواء، فلا يحتاج أن يقرأه في كتبه ومناهجه وهو يعيش هويته وتاريخه على السواء في ذات الحال.
كان لمعهد الدوحة -الذي أفخر بالانتماء إلى هذا النموذج المتقدم للمؤسسات والهيئات العربية التعليمية خصوصاً في مراحل التعليم العالي- دور بارز في تعريفنا على الثقافة المجتمعية القطرية من خلال الترتيب لفعاليات ورحلات وزيارات مختلفة داخل وخارج الدوحة، مثلاً الخروج إلى الصحراء وزيارة لمنطقة "سيلين"، وركوب الرمال التي تسمى بـ(التطعيس) كانت مغامرة جرئية وغاية في المتعة، وكذلك زيارة متحف الفن الإسلامي وما يحويه من إرث تاريخي وقطع أثرية لمختلف الحضارات والثقافات.
وأثار دهشتي مدى اهتمام الإنسان القطري بالاحتفاظ بالموروث الثقافي والتاريخي حسب معرفتي أن القطريين من أكثر الشعوب اهتماماً بالاحتفاظ بالآثار ويسافرون لجمعها من بلدان مختلفة، بل حتى إنهم يمتلكون متاحف شخصية مذهلة كما لاحظتها من خلال متابعتي لبعض الناشطين في مواقع التواصل الاجتماعي.
بالإضافة إلى ذلك، فإن الكمّ الكبير الذي تحظى به الدوحة من الفعاليات المختلفة ساعدنا كثيراً للانخراط في البيئة القطرية، ومنها أيضاً فعاليات درب الساعي التي أثارت دهشتي وعاودت الحضور إليها مراراً، حيث أمتعني كثيراً اعتزاز القطريين بهويتهم العربية عموماً، وخصوصياتهم الثقافية، حيث وجود الأحصنة العربية حاضرة بشكل كبير وكذلك الجِمال (الإبل) التي تحمل هوية للإنسان العربي القديم.
وذلك التشبث بالتاريخ ومحاولة تجديده وترسيخه في الذاكرة الوطنية للأجيال القادمة صورة مثاراً للإعجاب، وكان ملاحظاً اندفاع القطريين نحو الفعاليات التي تقام برغم كثرتها وتنوعها، إلا أنها كانت تتمتع بزخم وحضور مشجع جداً ولافت.
كان من أبرز ما لفت انتباهي تلك الصورة الجميلة التي يُنظر إلى الطفولة من خلالها تحديداً في درب الساعي؛ حيث تُغرس الهوية الوطنية في الطفل منذ لحظاته الأولى في مسيرة الحياة ويتم إشراكه في مختلف جوانب الحياة المدنية والعسكرية، مما يعزز ثقته بنفسه ويبني تفكيره وولاءه نحو الوطن الذي يسعى إلى خدمته ورفع لوائه، حينما يصبح قادراً على تحمل تلك المسؤولية، وآلمني الوضع حين قارنتها ببلدي الذي يُساق فيه الأطفال بعمر الزهور إلى محارق الموت في جبهات القتال، فيما يفترض بهم أن يكونوا مستقبل البلد، فضلاً عن الكثير من الفعاليات التي تستلهم التاريخ والهوية، وتعزز من رغبتك في تذوق هويتك الأصيلة والحفاظ عليها؛ حيث كانت فعاليات كتارا هي الأخرى في إثارتها حيث لفتت انتباهي مدى التنوع في اللحن الثقافي القطري الممزوج بلون الصحراء وزرقة البحر معاً، في مسابقات القوارب واستقبال الفائزين بأهازيج ورقصات شعبية متعددة وممتعة، وتعليم الأجداد للأبناء عملية ممارسة الصيد التي كانت هي المهنة القديمة التي كان يمتهنها الأجداد في صورة تجسّد الاعتزاز بالماضي، والسعي لتعزيز ذلك الاحتفاء في الجيل الناشئ.
فعاليات اليوم الوطني كانت ذات نكهة خاصة كم أبديت إعجاباً بتلك المشاهد العجيبة وتوافد الناس إلى ساحات الكرنيش لحضور الفعاليات؛ حيث اجتاح شوارع الدوحة القريبة من ميدان المناسبة الكبير تسونامي بشري، مشحون بطاقة انتماء شعوري بالغ، خصوصاً من المقيمين، وهذا على غير المعتاد وقلَّ أن تجده في بلدان أخرى، حتى قلت حينها لم أرَ بلداً المقيمون فيه يحبونه كما يحبه أهله كقطر، وهكذا لقد عززت الفعاليات الكثيرة والزيارات والرحلات المختلفة انخراطنا أكثر في البيئة القطرية، وساهمت في تعميق معرفتنا في الفضاء الثقافي القطري، بل ساهمت في تعزيز انتمائي لهويتي العربية وانتمائي الروحي لها، كذلك البيئة الدراسية في المعهد والزيارات إلى المكتبات العامة والجامعات المختلفة عمّقت من الحافز في الإنتاج العلمي والمهني بالنسبة لي، وساهمت بيئة المعهد في مساعدتي في اكتساب مهارات فكرية وعلمية وبحثية أشعر بالرضا الكبير عنها، مصحوباً بالفخر والاعتزاز بذلك، لقد منحتني الفرصة التعرف على صداقات جديدة من أرجاء وطننا العربي الكبير ومن خارجه، أعطتني الفرصة لزيارة أهل لي مر على ابتعادنا فترة طويلة، ومنحني قربهم شعوراً في منتهى الحب والسعادة.
استفدت الكثير وتعلمت الكثير، وما زلت كل يوم أتعلم أشياء جديدة برغم أنه لم يمر على مكوثي هنا سوى أربعة أشهر لكنها بمثابة سنوات، الدوام والأمان والسلام لهذا التراب.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.