وضع الدكتور جورج طرابيشي مجموعةً من المقالات في كتاب من جزئين، ووضع له عنوان "هرطقات"، تناول فيها عدة موضوعات سوف نركز على اثنين منها فقط، وهما: الديمقراطية والعلمانية.
في تناوله لمسألة الديمقراطية، فإن طرابيشي لا يتحدث عن مدى نجاعة الحل الديمقراطي، فهو يرفض منهج التلويح بها كما لو أنها أيديولوجيا خلاصية. ويبدو أن الدافع لهذا الحذر هو ما مُنيت به الأيديولوجيات السابقة -مثل الاشتراكية والقومية- من "فشل"، وعدم القدرة على "الوفاء" بما كانت تقطعه من وعود على نفسها، حيث لم تتم صياغة كل من هذه الأيديولوجيات كـ"إشكالية".
والإشكالية كما يبينها طرابيشي هي "كل مسألة أو مجموعة مسائل تكتنف الإجابة عنها صعوبات وتبدو قابلة لأجوبة متعددة، بل متناقضة، هذا إن لم تستوجب أصلاً تعليق الحكم بانتظار توفر شروط أفضل للإجابة"[1]. من هنا يضع طرابيشي مجموعة من الإشكاليات تكتنف الديمقراطية في العالم العربي:
الأولى: إشكالية المفتاح والتاج. يمكن صياغة هذه الإشكالية كسؤال، ومفاده: "هل الديمقراطية شرط مسبق أم هي أيضاً نتيجة وحصيلة لتطور مجتمع بعينه؟". فإن الأيديولوجيا الخلاصية تفسخ العلاقة الجدلية بين السبب والنتيجة، وتؤسس الديمقراطية (بوصفها سبباً) في نصاب الشرط المسبق المطلق. "فهي الشرط السابق لكل نتيجة لاحقة. بدونها لا شيء، وبها كل شيء". ومن الواضح أن هذه النظرة إذ لا تأخذ الشروط التأريخية والاجتماعية بعين الاعتبار، تتعامى عن ملاحظة أن الديمقراطية كانت "حتى في مسقط رأسها -وفي لحظات بعينها من تاريخ أوروبا الغربية كما في بقع بعينها من جغرافيتها- ممارسة جديرة بالوصف بأنها جهنمية أكثر منها فردوسية"[2].
الثانية: إشكالية الثمرة والبذرة. وهذه الإشكالية متفرعة عن الإشكالية الأولى. فالخطيئة التي تقع فيها الأيديولوجيا الخلاصية عندما تجعل من الديمقراطية، لا ثمرة يانعة برسم القطف فحسب، بل أيضاً للمعذبين في الأرض العربية كما لو أنها فاكهة الجنة، هي "خطيئة اقتصاد المعجزة"، خطيئة التصور بأن الديمقراطية لا تقتضي جهداً، بل تعفي من الجهد. وبديهي أننا لا نماري في أن الديمقراطية شرط من شروط الإقلاع، ولكنه شرط لازم من غير أن يكون كافياً"[3].
الثالثة: إشكالية مفتاح المفتاح. من الشروط التي يرى طرابيشي أنها ضرورية لانطلاق الديمقراطية شرط "الحامل الاجتماعي" للديمقراطية. وهو يرى "أن البرجوازية هي الحامل الطبيعي للديمقراطية، وبانعدامها تنعدم. ولكن سلسلة الثورات الوطنية والانقلابات العسكرية القومية واليسارية التي عمت معظم الأقطار العربية حفرت بضربة معول واحدة قبر الديمقراطية وقبر البرجوازية معاً" [4].
الرابعة: إشكالية الشرطي ورجل المباحث. "فإننا نعتقد أن مرد المأزق الديمقراطي في العالم العربي ليس إلى قوة حضور الدولة، بل على العكس -ومهما بدت المفارقة قوية- إلى استضعافها وتغييبها. ففي توصيفنا لواقع الدكتاتوريات العربية، نميل إلى أن نعكس المعادلة، وإلى أن نتحدث، لا عن عدوان الدولة على المجتمع المدني، بل عن عدوان السلطة على الدولة، وإعاقتها إياها عن أداء دورها كعامل منظم ومعقلن للاجتماع البشري. نعتقد أنه ليس من مخرج آخر من المأزق الديمقراطي العربي سوى رد الاعتبار إلى الدولة نفسها، وسلطة القانون، ومبدأ العنف الشرعي" [5].
الخامسة: إشكالية الذئب والحمل. يرى طرابيشي أن "منطق تأثيم الدولة وتبرئة "الأمة" أو "الشعب" أو "المجتمع المدني" يحمل بين طياته، على عكس مدعاه الديمقراطي، جرثوم شمولية جديدة" [6].
ومن أبرز أمراض "المجتمع الأهلي العربي" -لنلاحظ هنا استخدام مصطلح المجتمع الأهلي بدلاً من المجتمع المدني- هما: الفئوية الطافية واللوبوية الدينية. "فالفئوية الطائفية تؤدي إلى خلل خطير في تطبيق مبدأ التمثيل الديمقراطي، وإلى خلل أشد خطورة في اشتغال جدلية الأقلية والأكثرية. فالأكثرية ليست أكثرية حزبية أو كتلوية، ينعقد عقدها وينفرط داخل البرلمان؛ بل هي أكثرية دائمة توصف بأنها إسلامية أو مسيحية، سنية أو شيعية، عربية أو بربرية أو كردية.. [فإذا أخذنا بنظر الاعتبار المرض الثاني المتمثل] في النمو المتعاظم لظاهرة اللوبيات الدينية الممولة بالدولارات النفطية.. فلنا أن نتحدث عن حصار، بل عن اعتقال لمبدأ مبادئ الديمقراطية -حرية الفكر والاعتقاد- بين فكي كماشة: رقابة حكومية سياسية ورقابة شعبية دينية" [7].
السادسة: إشكالية الصندوقين. "فالديمقراطية هي بالأساس ظاهرة مجتمعية، والمجتمع هو في المقام الأول نسيج من العقليات. ولئن كانت الحرية الديمقراطية تنتهي لا محالة إلى صندوق الاقتراع، فإن الصندوق الأول الذي تنطلق منه وتختمر فيه هو جمجمة الرأس. وإن لم يتضامن صندوق الرأس مع صندوق الاقتراع، فإن هذا الأخير لن يكون إلا معبراً إلى طغيان غالبية العدد.
ولئن كانت الانتخاب أهم آليات الديمقراطية، فإن الآلية الانتخابية نفسها غير قابلة للاشتغال بدون زيت. وزيت الآلية الانتخابية هو ثقافتها، فإن كانت الأنظمة العربية القائمة تقيم العثرات أمام الآلية الديمقراطية، فإن المجتمعات العربية الراهنة تقيم العثرات أمام الثقافة الديمقراطية. فالأنظمة العربية لا تتحمل انتخاباً حراً، ولكن المجتمعات العربية لا تتحمل رأياً حراً" [8].
العلمانية: البحث عن بذور
ضد الرأي الذي روَّج له بعض المستشرقين، وتابعهم عليه بعض الباحثين العرب، الذي يقول إن الإسلام، خلافاً للمسيحية، لا يمتلك بذور التفريق بين الدين والدنيا، أو بعبارة واضحة ليس فيه بذور للعلمانية، يرى طرابيشي أن الإسلام "لا يختلف اختلافاً جلاً عن المسيحية الإنجيلية في التمييز بين الدنيا والآخرة" [9]. وأن النص الإنجيلي المشهور "أعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله" يجد مكافِئهُ في القول المشهور أيضاً للرسول محمد (ص): "أنتم أعلم بأمور دنياكم". ويذهب طرابيشي أبعد من ذلك، فيرى أنه إذا كان ثمة فارق بين المسيحية والإسلام، بخصوص البذور العلمانية، فإنما هو في التجربة التاريخية لكل من الديانتين.
يقول: "ولكن لئن لم يبق الإسلام بعد ثلاث عشرة سنة [الفترة من بداية الدعوة النبوية في مكة إلى توطيد "الحكم" في المدينة]، من بدء الرسالة المحمدية محض ديانة أخروية، مفترقاً في ذلك افتراقاً كبيراً عن المسار التاريخي للمسيحية، فقد عرف بالمقابل مساراً "علمانياً" مبكراً، لم تعرفه المسيحية، وذلك بالتحديد من حيث إنه دمج في وقت مبكر أيضاً بين الدين والسياسة. فإن كانت العلمانية تعني فيما تعنيه عدم فصل السياسي عن الديني فحسب، بل إعطاؤه السؤدد، فإن التسييس المبكر للإسلام قد جعل مسلمي الصدر الأول يعطون الأولوية، في الممارسة العملية على الأقل، للدنيوي على الأخروي، وهذا إلى حد التطاول على حرمة المقدس.
فإن اجتماع السقيفة يقدم لنا عينة تاريخية مبكرة، ومن ثم ثمينة جداً، عما ستكونه مؤسسة الخلافة في الإسلام من حيث هي مؤسسة سياسية قبل أن تكون إمامة، ومن حيث أن الصراع تحت رايتها كان على المدنس قبل أن يكون على المقدس" [10].
بينما التمييز بين الخلافة، من حيث هي دين، والملك من حيث هو تغلب وقهر، إنما فرض نفسه ابتداء من العهد الأموي. ثم حصلت الازدواجية التامة للسلطة في الدولة الإسلامية إلى دينية وسياسية عندما كفت هذه الدولة، في العهد العباسي الثاني، بأن تكون عربية خالصة. "فمع بداية سيطرة العجم من ترك وديلم وسلاجقة على الدولة في القرن الثالث للهجرة فصاعداً، عرف تاريخ الإسلام ما عرفه تاريخ المسيحية من توزع للسلطة بين البابوات والأباطرة، أو بين البابوات والملوك" [11]. ثم توحدت السلطتان (الدينية والسياسية)، مرة أخرى، في عهد تغلّب العثمانيين.
العلمانية كإشكالية إسلامية-إسلامية
يرى طرابيشي أن قضية العلمانية، ومن منظور التعددية الطائفية في الإسلام، فإنها ليست فقط قضية مسيحية-إسلامية، بل هي أيضاً، وربما أساساً، قضية إسلامية-إسلامية [12]. وبعد استقراء للحوادث والفتن التي كانت تقع بين السنة والشيعة في بغداد، والتي حفظتها لنا كتب التراث فإنه "ابتداءً من منتصف القرن الرابع وحتى منتصف القرن السابع -زمن سقوط بغداد في أيدي التتار- دارت بين سنتها وشيعتها لا "حرب ثلاثين عاماً" كما تسمى كبرى الحروب التي دارت بين البلدان الكاثوليكية والبروتستانتية في أوروبا بين 1618 و1648، بل حرب 300 سنة" [13].
وما الحرب الطائفية التي اجتاحت العراق مطلع الألفية الثالثة عنا ببعيدة. وطرابيشي يرفض تعليق الفأس في رقبة صنم العامل الخارجي، بل إن هذا العامل كان يوظف في الصراع الطائفي كلما استطاع أحد الفريقين أن يستخدمه ضد الآخر.
وبعد أن يستعرض طرابيشي سجل "حرب الكلام" بين السنة والشيعة منذ ظهورهما حتى ظهور الإنترنت! يقرر "أن الطائفية في الإسلام ليست حدثاً طارئاً ولا مصطنعاً بعامل خارجي: فهي قديمة قدم الإسلام نفسه" [14]. فالمطلوب إذن ليس التحييد الديني للدولة -أي جعلها حيادية دينياً بمعنى أن ليس لها دين- فقط، بل التحييد الطائفي للدين. "فلئن قامت العلمانية في الغرب على أساس التحييد الديني للدولة، فإن العلمانية في المجال العربي الإسلامي لا بد أن تقوم أيضاً على التحييد الطائفي للدين نفسه.. ففي التجربة الغربية كانت العلمانية مبسوطة اليد في مجال الدولة، مكفوفتها في مجال الدين نفسه. أما في الساحة العربية الإسلامية فلا بد أن تكون العلمانية مبسوطة اليد في المجالين كليهما. فهنا ليس المطلوب علمنة الدولة وحدها على مستوى السطح، بل أيضاً علمنة المجتمع على مستوى العمق" [15]. فنحن لسنا بحاجة فقط إلى علمنة المجتمع، بل إلى علمنة الدين نفسه كذلك، حيث الإسلام اليوم هو من أحوج الأديان إلى الفصل فيه بين الزمني والروحي.
المصادر
[1] المصدر: جورج طرابيشي، هرطقات1، دار الساقي، الطبعة الأولى 2006، ص9.
[2] ص10-11.
[3] ص11-12.
[4] ص12.
[5] ص14.
[6] ص15.
[7] ص15-16.
[8] ص17-18.
[9] ص21.
[10] ص22-25.
[11] ص33-34.
[12] المصدر: جورج طرابيشي هرطقات2، دار الساقي، الطبعة الأولى 2008، ص11.
[13] ص17-18.
[14] ص89.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.