عشت في (الجموم) ثمانية أشهر، لا أزعم أنها أيام جيدة مطلقاً أو سيئة، بل كحياة الناس تتعاقب فيها الفصول الأربعة.
كان (علي)، عامل المسجد، من القلائل الذين أقضي معهم وقتاً طويلاً في "الجموم".
حكى لي مرة حجم الإحراج الذي أصابه حين طلب منه من بجانبه وهو يقود السيارة أن يتوقف بجوار الصيدلية، عليّ لم يعرف أين الصيدلية..
أوه.. فهمت أن علي لا يقرأ ولا يكتب (أُمّي).
سألته قبل أن نفترق منتهزاً وجعه: هل أنت مستعد لتعلّم القراءة يا عليّ؟
كانت كل جارحة فيه تقول نعم.
إن شاء الله بين المغرب والعشاء يومياً موعدنا لدراسة "القاعدة النورانية".
ما إن أخرج من المسجد حتى أجد (علي) انتهى من آخر نفثة سيجارة وداسها بقدمه، وباليد الأخرى المرسام والدفتر.
كانت هذه عملية الإحماء عند (عليّ) قبل النزول للملعب.
بسم الله بدأنا.. مرت الأيام.. بعد أسابيع تجرأ (علي) وسألني مرة: "يا محمد إيش تستفيد من هذه الكتب؟"، سأل وهو يقلب كتاب (مذكرات: لي كوان يو) يحكي تجربة سنغافورة.
من المبكر أن أتكلم عن أهمية القراءة وضرورتها وأقرا ترقَ.. وقارئ اليوم قائد الغد.. ومن ذي البروتينات.
سألني سؤالاً آخر كما لو أراد أن يساعدني في الإجابة: ولا تدرسها في الجامعة؟
قلت له: "تفيدني في مرحلة الجامعة".
كنت متلهفاً للنهاية أكثر من (علي)، بعد شهرين، وتحديداً في درس قراءة الكلمات الثلاثية المركبة، كنت أساعده في التهجي (أ ح د.. أحد) فهم الطريقة.
بدأ التهجي، وعند كلمة: (ك ت ب) صرخ: كتب. صرخت أقوى: الله.
ارتسمت على وجهه كل تعابير الفرح، وبدا كأجمل من خلق الله.
توقف عن القراءة، تسربت -قسراً- دمعة على خده، وكأنها قطرة ندى على غصن.. "والله شكراً يا محمد".
سرد (علي) دون إذن أو مقدمة جزءاً من ذكرياته السوداء في البادية اليمن، أظنها المرة الأولى التي انكسر فيها هذا الرجل العصامي.
"كنت يا محمد زي الأعمى الآن بديت أشوف، والله شكراً".
كنت أنا في المقابل ذائباً من الفرح، أكيد شاهدتم فيديو لإنسان يعود له بصره بعد سنين كان لا يرى إلا الأسود.
ما مدى سعادة طبيب العيون الذي وقف على العملية حتى تكللت بالنجاح؟!
خرجنا لنحتفل بهذا الإنجاز وقررنا نتعشى، طوال الطريق كان (علي) منتشياً بهذا الإنجاز، يتهجى لوحات المحلات، طبعاً ساعده في قراءة بعض المحلات إنها بديهية، مثلاً (ب ق…) قطعاً ما حتكون بقرة أكيد (بقالة)!
من أسعد اللحظات حين قررنا ننتقل للقراءة من المصحف، رحب بالفكرة وأخبرني أنه لا يحفظ إلا الفاتحة.
فتحنا المصحف -كانت هذه أول مرة يمسك فيها المصحف، اخترت "الفلق" دون تفكير أو قصد، "كان يقرأها بمشقة"، "قل أعوذ برب الفلق.. من شر ما خلق".
يا الله هل هناك ما هو شر من الجهل؟!
تخيلت الأجرين اللذين يحصل عليهما من يقرأ القرآن وهو عليه شاق.
لم يبق (علي) بعدها كثيراً، ترك (الجموم) جرياً من أجل تحسين معيشته.
وكأن الله جمعنا هنا لنحقق هذا الهدف السامي.
بين الحين والآخر يرسل (علي) رسالة واتس آب: "كيفك، صباح الخير، جمعة مباركة".
أستمتع بقراءتها وكأنها لحن حجازي.
أن تجيد القراءة يعني أنك تملك المفتاح الذي حرمه أكثر من ربع سكان الوطن العربي 27%.
ألا تستخدم هذا المفتاح فأنت لست بأحسن ممن حرموه!
[والذي لا يقرأ ليس بأحسن ممن لا يجيد القراءة].
الذي دعاني لتذكر هذه القصة أنني ذهبت لأخذ بعض (الأغراض من غرفتي)، ووجدت "القاعدة النورانية" يعلوها غبار، استعدت الذكريات، وأزلت الغبار عنها كما لو كانت كتاباً مقدساً.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.