أخبرني أحد أصدقائي أن بعض المرضى كانوا لا يتذكرون اسمي أحياناً فيبادرون بوصفي: "هو دكتور كده بنضارة وشعره طويل مفلفل".
أما عن ضعف البصر والشعر المفلفل فمن عند الله ولا دخل لي بهما وليس لي أو لغيري أن نعترض، أما عن كون شعري طويلاً أو "منعكش"، فموضوع قص الشعر أو تهذيبه هو في الواقع قصة طويلة مملة أو معاناة بمعنى أصح لمن يعرفها، قد تُفضل بسببها أن تترك شعرك ينمو و"يتنعكش" بدلاً من أن تخوض تجربة كهذه.
شخصياً أعتبر قرار الذهاب للحلاق قراراً مصيرياً أن تذهب بكامل إرادتك وأنت في كامل قواك العقلية لشخص ما "وفي الغالب بيكون بالع راديو"، وتسلمه رأسك ودماغك لمدة نصف ساعة، يعبث فيه بشعرك وأفكارك وأحلامك وحياتك العامة والخاصة، وربما يتبرع أيضاً معك للتخطيط للمستقبل.
الأحلام شيء، والواقع المؤلم شيء آخر تماماً، فصالون الحلاقة المفترض أن يكون على غرار الفيلم الأميركي الشهير "باربر شوب" منتدى ثقافياً أو ملتقى اجتماعياً قد تستمع فيه لموسيقاك المفضلة، أو تقرأ مجلة الحي أو جريدة المحافظة، أو قد يتعارف فيه أهل المنطقة في هدوء ورقي في فرصة نادرة لتجاذب أطراف الحديث في مواضيع مهمه مثل: "مشاكل الركنة أو ماسورة المجاري اللي كل شوية تضرب في الشارع".
لكن الواقع أن هذا المشوار بكل تفاصيله ممل جداً، بدايةً من مجموعة السنيدة أو الكائنات الطفيلية، تجدهم هناك في صالونات الحلاقة في كل وأي وقت وكأنهم جزء لا يتجزأ من الأثاث أو الكماليات، وهو ما يجعلك تتساءل وتشك في كثير من الأحيان إذا كانت هذه شغلانة بجد ووظيفتهم أن يكونوا سنيدة يخلقون جواً معيناً من المرح المصطنع أو الترفيه عن الزبون وقول الجملة الشهيرة وفي نفس واحد: "نعيماً يا أستاذنا".
زمان كنت أذهب لحلاقي المفضل "عم محروس"، رحمه الله، وهو شخص نادر في وقاره وقلة كلامه ونظراته الثاقبة وضحكته الهادئة، كان هناك أيضاً حينها سنيدة، ولكنهم سنيدة الزمن الجميل، سنيدة من نوع خاص يتناسب مع خصوصية المكان وصاحبه، تجدهم مثقفين وموظفين على المعاش وغيرهم، حديثهم هادئ وشيق، مهذب ومبهر في بعض الاحيان، خاصة عندما تعرف أن هناك من يشاهد دوري المظاليم "دوري الدرجة الأولى"، بل ويشجع نادي بلدية المحلة باستماتة، ويعرف رقم فانلة اللاعب المساك الخطير "حمادة شنح" ابن وفخر المنطقة، أو قد تحس أن الدنيا ما زالت بخير؛ لأن هناك من يخطط هو وأصحابه في الصالون للسفر مئات الكيلومترات لعزاء أحد الجيران في وفاة خال جوز بنت عم مراته.
الآن الصالونات مليئة بالسنيدة التافهين، "أي كلام" ومعدومي الفائدة وكثيري الثرثرة منعدمي الثقافة، رحلة البحث عن صالون حلاقة جديد قد تأمن فيه على رأسك وترتاح له نفسياً، رحلة مجهدة وشاقة جداً، أتذكر في رحلة بحثي عن حلاق جديد وفي تجربتي لأحد الصالونات، أزعجني كمّ السنيدة هناك وكيفهم، شباب عاطل وتافه، ضحك مستمر على الفاضي والمليان، والمؤسف أنك مضطر أن تجاريهم بابتسامة ظريفة؛ لأن الأعين كلها عليك والمقص فوق دماغك، إلا أنني هذه المرة فاض بي الكيل، وفي النهاية نظرت إلى أحد السنيدة وأثقلهم ظلاً بغضب معناه: "مين التافه اللي علمك الهزار أو فهمك إن دمك خفيف؟".
ذهبت إلى الصالون بعدها وبعد أن جلست على الكرسي وجدت الشخص السنيد ثقيل الظل هذا يمسك المقص ويتأهب للحلاقة.
سألته حينها: إيه يا عم رايح فين؟
أجابني: معلش أصل الأسطى في فرح خالته وأنا هنا مكانه.
الصدمة أسكتتني وتُهت بين الأسطى وخالته والمقص والسنيد الذي بدا لي أنني سأكون أولى ضحاياه، رأيت وجهه منتشياً كلاعب مغمور جاءته الفرصة بعد طول انتظار والجلوس على خطوط الاحتياط لسنوات وسنوات.
ثم سألني: إيه، نتوكل على الله يا أستاذ؟
أغمضت عيني وسلّمته رأسي ورضيت بقضاء الله، وقلت له: اتوكل على الله وسوق بالراحة والنبي يا أسطى دي عليها أقساط.
كان على غير المتوقع ودوداً جداً معي ربما كان يحاول إثبات نفسه أو أنه ليس بهذه التفاهة كما ظننته، كان حريصاً لدرجة الملل، لم يكن يتردد في كل ثانية أن يسألني: ماذا أريد بالضبط؟ فأكرر نفس الإجابة: "اعمل أي حاجة"، لدرجة أنه كاد يسألني عن كل شَعْرَة أو جزء من الشعرة قبل أن يقصها: "ها؟ أقصها ولا بلاش دي؟"، كان يسألني كل جزء من الثانية عن رأيي ويؤكد لي أن أهم شيء أن أكون سعيداً وراضياً.
خلص السنيد مهمته بنجاح، وخلص على شَعْرِي، ونظرت في المرآة، لأجد رأسي "شبه القلقاسة أو البطاطساية المقشرة"، رأس جرداء مقفرة بدون ملامح واضحة، أقنعت نفسي حينها أن المؤمن مصاب، وأن المهم هو المضمون وليس الشكل، وأن الدنيا ليست دائمة لأحد، وأن هذه طبيعة الحياة "يوم فوق ويوم تحت".
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.