ما الذي يجعل الشركات تتهاوى، تنخفض قيمة أسهمها وتهوي قيمتها الإجمالية فيهرع مجلس الإدارة إلى تعيين شركات استشارية ومختصين لإيجاد الحلول؟
كمديرين نلجأ عند الأزمات إلى شركات استشارات لإحداث تغيير جذري بالشركة، وتعديل في خططها وأهدافها حتى تصبح أقوى في مجال المنافسة، لكن في الغالب لا نلتفت إلى ما يحدث بالداخل، رغم أن تأثير المشاكل الداخلية كبير، قد يكون أكبر من العوامل الخارجية.
صحيح أن البيئة الخارجية وما فيها من عوامل تنظيمية، لوجيستية، وتنافسية وتغيير مستمر في التكنولوجيا يكون له تأثير كبير على الشركة وخططها المستقبلية، ودراسة هذه العوامل تثمر في رفع الكفاءة، وتعزيز قوة الشركة في المنافسة، وبالتالي رفع العائدات، وأخذ نسبة معتبرة من إجمالي قيمة السوق.
لكن لا تقف الإدارة عند هذا الحد، ولا يقتصر التخطيط على هذا المستوى فقط.
المستوى الداخلي أيضاً يحتاج إلى مراقبة، تنظيم وأحياناً هيكلة، حتى لا تفقد الشركات بوصلتها وتعود إلى مسارها الصحيح.
المشاكل الداخلية
كثيرة هي الأسباب التي تضعف الشركات داخلياً من سوء إدارة، تشبث المديرين بالمناصب القيادية، وإبعاد الكفاءات الشابة، متعللين بقلة خبرتهم أو مجازفتهم الكبيرة أو تهميشها خوفاً من المنافسة، وتولي مناصبهم مستقبلاً، بالتالي تشيخ المؤسسات؛ لأن الإدارة كلها من رعيل أول لم يلتفت إلى تدريب وتأهيل خليفة من الدماء الشابة لاستلام هذه المناصب.
غياب التحفيز بين الموظفين وغياب ثقافة الإبداع، وهذا يؤدي إلى مغادرة معظم العقول ذات الأفكار المتطورة إلى شركات منافسة.
الصراعات الداخلية بين المديرين والأقسام تفقد الشركة روح التعاون بين شتى أقسامها وتقوم على جهود فردية بدل العمل كسرب منسجم.
الإدارة التي تخشى التغيير وتسعى بشراسة إلى مقاومته تسبب رجوع الشركة إلى الوراء والتخبط، كم من شركة انتهت؛ لأنها لم تتطور أو تتقبل تطبيق أفكار إبداعية، بل حاربها المديرون في غرف الاجتماع وعند مجلس الإدارة بشتى الطرق، ونبذوا تطبيق سياسات جديدة أو حتى تعديل منتجهم، بالتالي أصبحوا في طي النسيان مثل شركة بلاك بيري، موقع ياهو، شركة نوكيا للهواتف النقالة التي كانت أسهمها قبل حوالي عشرين عاماً تتداول بين 31 و32 دولاراً، واليوم تبلغ قيمة السهم حوالي 5 دولارات مخلفة وراءها أسطورة شركة الهواتف النقالة التي رفضت إدارتها التغيير فهوت بقوة عند صعود منافسيها.
عند حدوث خلل داخلي هذا يبطئ مسار الشركة ويرسلها إلى المجهول، لكن عادة الخبراء لا يلتفتون إلى هذه النقطة، ففي الغالب لا يخطر على بالهم أن المسألة قد تكون داخلية ولا تحتاج إلى تغيير استراتيجية، أو النظر إلى تغيير هوية الشركة بأكملها بقدر ما تحتاج إلى إصلاح داخلي.
إمبراطورية كوداك
شركة كوداك التي عمرت 130 سنة، كانت من أكبر الشركات قيمة في السوق وذات أرباح عالية، وتتمتع بتصنيف ائتماني عال. وكان لها نصيب أكثر من 90% من إجمالي الصور التقليدية في السوق الأميركية عن طريق تحميض الأفلام، وقد كانت الشركة تسجل أرباحاً خيالية من بيع الكاميرات التقليدية وتحميض الأفلام.
كل هذا لم يمنع سقوطها عندما أخفقت إدارتها إخفاقة كبيرة وأصابت في مقتلها عندما رفضت الولوج إلى عالم التصوير الرقمي، ظناً منها أن الأخيرة لن تصمد وستكون مجرد زوبعة في فنجان.
المضحك المبكي في الموضوع أن شركة كوداك كانت من أوائل الشركات التي صممت الكاميرا الرقمية، لكن الإدارة لم تعر الأمر أهمية كبيرة، ولم تطور التصميم الأولي لها بل أهملته.
كان اعتماد كوداك ينصب على تسجيل الأرباح بالتركيز على تحميض الأفلام؛ لأن هذا المجال الذي كان يدر النسبة الأكبر من الربح، إلا أن رياح التغيير غيرت كلياً الاعتماد على تحميض الأفلام لاستخراج الصور.
استراتيجياً خطأ كوداك كان أنها لم تستطع مواكبة التغيير المفاجئ الذي حصل في سوق الكاميرا بالسرعة المطلوبة عندما انتقل العالم إلى اقتناء الكاميرات الرقمية، ولم يعد تحميض الأفلام بالشيء المجدي، وكان له بديل في تحميل الصور من برامج الكمبيوتر، رغم أن الإدارة كانت على علم أن التصوير الرقمي هو الذي سيحل محل التصوير التقليدي وتحميض الأفلام، إلا أنها كانت متعنتة ولم تقبل تغيير مسار الشركة أو حتى التركيز على تطوير الكاميرات الرقمية.
انخفضت المبيعات كثيراً وهوت أسهم الشركة وانخفض تصنيفها الائتماني.
في عام 2005 عندما حاول الرئيس التنفيذي أنتونيو بيريز الآتي من شركة HP تغيير الثقافة في كوداك فشل فشلاً ذريعاً فقد كان بيريز يعمل وحده أمام إدارة غير متقبلة للتغيير، مرتكزة على تمجيد الماضي بدل العمل المتواصل على مواكبة المستقبل. في عام 2012 أعلنت الشركة إفلاسها، وقد طلبت بورصة نيويورك إيقاف أسهم الشركة؛ لأنها لا تلاقي أي إقبال من المستثمرين فليس للسهم قيمة، واختفت إمبراطورية كوداك التي تأسست منذ عام 1883 والتي كانت إدارتها فخورة جداً بإنجازات تاريخية سابقة أعمتها عن رؤية مستقبلية مواكبة لتغيير شامل في عالم الكاميرا والصور.
جوبز وغريزة البقاء
في مقابلة تاريخية لستيف جوبز وسؤاله عن إبعاده عن الشركة لسنوات من قبل الرئيس التنفيذي جون سكالي الذي اختاره بنفسه وأقنعه بالانضمام إلى شركة Apple آنذاك، لم يعلم جوبز أن هذا الخصم القوي هو من سيزيحه من شركته التي بناها من الصفر.
تضاربت الآراء واختلفت السياسات، لم يعلم جوبز أن سكالي سيتدخل في كل كبيرة وصغيرة وسيعترض قرارات جوبز لنقل الشركة إلى مستوى آخر. جوبز حاول الانقلاب على سكالي وطرده من الشركة بالتعاون مع مجلس الإدارة، ولكن سكالي وبخبرته قلب الطاولة على جوبز وخرج الأخير من الشركة في عطلة طويلة جداً رجع بعدها ليعيد دفة الشركة إلى مسارها الإبداعي بعد أن حادت عن المسار وانحسر أداء الشركة.
في مقابلته أجاب ستيف جوبز أن سكالي ذو غريزة بقاء عالية، وهي ما جعلته يتشبث بالمنصب ويفعل المستحيل ليبقى، وإن كان قرار إبعاد الشخص الذي أسس الشركة وأرادها أن تسير على خطى الإبداع.
جوبز اختصر كثيراً من دروس الإدارة والصراعات الداخلية التي تحدث وراء الكواليس بين المديرين والرؤساء التنفيذيين بكلمة "غريزة البقاء"، فعلاً إن غريزة البقاء عندما تكون أكبر من مصلحة الشركة وكل المساهمين فيها، عندما تكون أكبر من أهداف الشركة ومستقبلها فإنها تدخل المؤسسة إلى نفق مظلم لا يمكن الخروج منه.
في أحيان كثيرة يكون للصراعات الداخلية وصراعات القوى والبقاء الأثر الكبير على تدهور أوضاع الشركة، تكون العوامل الداخلية أشد فتكاً من العوامل الخارجية والتي قد لا تستطيع المؤسسات التحكم فيها.
أحياناً قد لا تحتاج الشركة إلى تغيير استراتيجيتها أو هويتها أو حتى البحث عن سوق جديدة وشريحة مختلفة من المستهلكين، أحياناً جُل ما تحتاجه الشركة التقليل من الرؤساء ذوي غريزة البقاء، وتعيين إدارة تسعى إلى التغيير ولا تهابه وتخشى على مصيرها منه، بل ترحب بالأفكار الإبداعية المتطورة ومتطلعة نحو المستقبل.
المؤسسات دول صغيرة
المؤسسات دول صغيرة يحدث فيها تغيير مناصب وتحدث فيها انقلابات، رؤساء ومديرون ضد بعضهم البعض، وصراعات مستمرة تولد منهجيات متناقضة وسياسات متضاربة المصالح تساهم كلها في عزل الشركة عن السوق والانحسار في الأداء.
لكي تكون قوياً من الخارج يجب أن تكون قوياً من الداخل. وهذه الصراعات والحروب الداخلية بين المديرين كلها تستنفد طاقة الشركة وتتركها مفلسة، متآكلة وضعيفة من الداخل وتجعلها تفقد القدرة على الرؤية المستقبلية من الخارج.
البيروقراطية، الصراعات الداخلية على السلطة من أشرس ما يمكن أن تمر به المؤسسة، تنهك قواها الداخلية وتضعفها وتنخر في هيكلها وتجعلها تفقد القدرة على الرؤية السليمة أو التخطيط للوصول إلى أهدافها. سياسة البقاء تصبح ثقافة سائدة في المؤسسة، وتتجذر في السلوكيات القائمة في مكان العمل فتجد المسؤول يحذو حذو مديريه فيبعد كل الكفاءات الجيدة عن المنصب، ويحاول تهميشها حتى لا يسلط الضوء على إنجازاتها؛ لأنه يكون بمثابة تهديد على بقائه في منصبه.
قد يكون مصدر المشاكل من داخل قاعات الاجتماعات وبين أروقة الشركة وجدران المكاتب، خاصة إن كان الوضع بحاجة إلى تغيير فعلي؛ تغيير لا يحتاج إلى مختصين بقدر ما يحتاج إلى عقول نيرة تمسح اعتقادات قديمة سائدة وتعيد برمجة الشركة إلى تقبل فكر جديد يسمح لها بتنفس الإبداع والتغيير، وبالتالي الاستمرارية.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات "هاف بوست" لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.