مقام التفكير.. المنصب الشاغر

يضحكني ويؤلمني في آن تصوّر الكثير من الناس عندما تذكر له كلمة: "التفكير"..يرفع حاجبَيه مندهشاً، يعصر مقلتَيه إكباراً، تجحظ عيناه إجلالاً، وتمتد يداه إلى السماء؛ ليشير إلى مكان مقدَّس يسبح في الأفلاك البعيدة، ثم يُطأطئ رأسه متحسراً قائلاً: "إيه.. لقد ذكرتني بعالمنا وسيدنا المفكر فلان"!

عربي بوست
تم النشر: 2018/01/30 الساعة 01:24 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2018/01/30 الساعة 01:24 بتوقيت غرينتش

يضحكني ويؤلمني في آن تصوّر الكثير من الناس عندما تذكر له كلمة: "التفكير"..يرفع حاجبَيه مندهشاً، يعصر مقلتَيه إكباراً، تجحظ عيناه إجلالاً، وتمتد يداه إلى السماء؛ ليشير إلى مكان مقدَّس يسبح في الأفلاك البعيدة، ثم يُطأطئ رأسه متحسراً قائلاً: "إيه.. لقد ذكرتني بعالمنا وسيدنا المفكر فلان"!

وفي تلك اللحظة بالذات أرفع أنا حاجبي في اندهاش، وأعصر مقلتي وتجحظ عيناي، لكن هذه المرة ليس إجلالاً أوإكباراً لهذا أو لذاك، ولا حتى لهذا الواقف قبالتي، ولكن استغراباً وأسى على ضياع المفاهيم من بين أيدينا، ودخول عقولنا في استسلام وتسليم لأغلب المهام "الراقية والنخبوية" لمن "يتقنونها"، والتي من بينها -بالطبع-: التفكير، الذي لا ينبغي للإنسان البسيط أو حتى المتعلم أو المثقف أن ينوي الاقتراب من مناصبها، والنتيجة: أماكن شاغرة لعقول مغيبة.. تمضي في هذه الحياة لتفعل كل شيء دون أن تفعل شيئاً واحداً: "التفكير"، وتكون بذلك قد أضاعت عمرها في السباحة في الأفلاك البعيدة، بل وأضاعت أعماراً إلى أعمارها.

لماذا يولد الإنسان؟ أَلِيعيش طوال حياته في القاع يبحث عن كسرة خبز ويقضي حاجاته الغريزية، وينام قرب مدفأة لا تخمد نارها، ويتطلع إلى السماء مرة في العام ليستمتع بمناظرات رواد الأخلاق الإنسانية، ويشجع طرفاً دون آخر، ثم ينصرف إلى بحثه الدوري، بعد أن يضع عقله على جانب المدفأة لترتخي تلافيفه؟

إلى متى يظل معظم الأفراد في مجتمعنا ينظرون إلى قضايا الحقيقة ولو في أبسط صورها وكأنها لا تعنيهم؟ بل قد يلتفتون إليها من حين لآخر ليحقنوا هذا العقل الجاف ببعض المتعة التي قد تذكره -صدفة- بأنه داخل جمجمة إنسان!

إن التفكير ليس في أداء الأعمال اليومية وإن صعبت، وليس في الدراسة بشكل مكثف ويومي مهما كانت مراحل الدراسة، وليس في إنجاز تحديات مشاريع عمل، وليس في قتل خلايا المخ في القلق الدائم على مستقبل الأبناء والأقارب، ولا في التفاعل والتواصل الاجتماعي، ولا في التشارك والتحاور الثقافي والحضاري، ولا في قضايا الإنسان المعاصر الكبرى فحسب، إنه في كل ما سبق يشتغل بالحد الأدنى لطاقته الكامنة، بل لا يكاد يتجاوز عتبة التعود الروتيني الذي يولد الإتقان والممارسة التلقائية.

ولكن التفكير المقصود هو الولوج إلى عالم المعرفة في كل المجالات، إنه الغوص في التساؤلات المنهجية للوصول إلى الحقائق، أو ما يدل عليها، إنه تشغيل الفكر للتوصل إلى المعالجة المنطقية والحكيمة لمختلف الوضعيات الحياتية، التفكير ليس عالماً من المثل التي لا تطبق على أرض الواقع، وهو ليس وظيفة يختص بها عباقرة البشر دون سواهم، ولم يكن يوماً حكراً على مجال دون آخر، بل لم يرتبط أصلاً بشيء دون غيره.

إن التفكير ليس متاهات فلسفية لا تتعلق سوى بالميتافيزيقا المثالية، وليس أداة يصعب استعمالها أو يندر مَن يُحسن تشغيلها، ولا هو بالذي ينتقل في صحة الرياضيات المطلقة، فيصل بها إلى الصحة المطلقة للنتائج، التفكير يُخطئ ويصيب، يسقط ويعلو، يقترب من ملائكة السماء تارةً، ويهوي إلى جهنم الشياطين تارةً أخرى، يكون صحيحاً اليوم وخاطئاً غداً والعكس بالعكس، يحتمل الخطأ والصواب، لكن تراكمه المتعاقب ينتج المعرفة الإنسانية التي تحتاج أي أمة للمضي قدماً إلى مستقبل واعد.

إنه الوظيفة التي تتيح لكل مَن يتصف بكرامة العقل أن يُدلي فيها بدلوه، متبعاً مسلّمات التفكير السليم وتدرّجات الفهم الأصيل.

هل يمكنك أن تتصور أن عملية الأكل والشرب منزلتان ساميتان، ومنصبان مثاليان لا يرقى إليهما عامة الناس؟ لن تقتنع بذلك ولو اجتمع العالم كله محاججاً ومبرهناً، أتعلم لماذا؟ لأن الأكل والشرب ضرورتان تغنيك معرفة أهميتهما عن أي تعليلات نظرية تفند ذلك مهما كانت قوتها.

هما مصدراك الرئيسيان للاستقواء على أعراض الحياة، إنك لا تأكل لمجرد الاستمتاع بالطبق، ولا تشرب لمجرد استعذاب المذاق، بل إنك تشعر بحاجة ملحّة إليهما مهما كان مستواهما؛ لأنهما يبقيانك على قيد الحياة، ولا يمكنك أن تنسى القيام بهاتين الوظيفتين وإن تغافلت عنهما، ولن يزيدك الصيام عنهما إلا زيادة في الإلحاح والشوق إليهما، بل إنك ستسعى بكل جوارحك لأن تحسن ذوق مأكلك ومشربك، فتتعلم مهارات جديدة لترقيك في عملك، فتحصل على أضعاف ما تتقاضاه، فتحصل على أضعاف ما تستلذه.. وبمثل ذلك تتدرج مراتب التفكير، وإلى هذا النحو يجب أن ترقى منزلته في العقول.

في عصر يسابق الزمن للتطوير، وينهمك في خطط لا محدودة من التدبير والتحبير، ينافس العالم نفسه للخروج من دائرة قدراته المحدودة، إلى اكتشاف ما يوصله إلى سبر أغوار حقائق تتطلب قدرات لا محدودة، في هذا العالم الجديد، ينبغي أن نتيقن أن علينا أن نتخذ من "التفكير" وسيلة حياة، بدونها تذهب ريحنا وتهدر أعمارنا، وبها -وحدها- نحيا كما ينبغي للإنسان المكرم أن يعيش.

وبتخلفنا عن ركب المفكرين من مختلف المستويات، فإننا لن نكون في الحضيض فحسب، بل إننا سنخسر قوتنا الذي لأجله رضينا بالحضيض، وسنفقد أعماراً إلى أعمارنا الحسية التي فنينا للحفاظ عليها!

إن كارثة العزوف عن التفكير المنهجي الراسخ جعلت الكثير من الشعوب مستغباة، لا تتجاوز آمالها أرنبة أنفها، شعوب تظن أنها تبني "بعدم التفكير" طوقاً للنجاة من مكائد "دهاة التفكير"، شعوب تتسول الحياة على أعتاب من نكَروا عرش المناصب الشاغرة، حتى إن السائل ليستغرب استغراب بلقيس: كأنه هو؟!، شعوب تأبى أن تلحق بالمسيرة المتوثبة للبشرية، وتظن أن العقل هو آخر وسيلة لبناء الحضارات، وأن الوسيلة الأولى والمفتاح الأقوى للنجاح في الحياة هو القاعدة الشهيرة: "خذ قسطاً كافياً من الراحة قبل يوم الاختبار، ونَم عشر ساعات يومياً؛ لتتمكن من أداء نشاط "عادي" في اليوم الموالي"… وما كل ذلك إلا غيض من فيض.

إنني أشير إلى حال التفكير في مجتمعاتنا من العالم الثالث إشارة عابرة ليس الهدف منها تبيين أهميته، ولا ربط مصطلحات المتقدمين والمتأخرين بالواقع الحالي، إنما هو رغبة قوية في أن يستعيد أصحاب المناصب الشاغرة أماكنهم، وبعودتهم إليها نستعيد رشدنا، فيفكر الصغير والكبير، والمتعلم والأمي، والرجل والمرأة، والأديب والمؤرخ، والطبيب والشاعر، والفيزيائي وعالم الطبيعة، والموظف والخباز، والصانع وربة المنزل؛ لأن كلاً منهم يمتلك المفتاح الذهبي للظفر بمقعد أُعد وجهّز له منذ ولادته، وأُعطي مفتاحه، ومُنح أدواته، وجعل عماله تحت قدميه… نعم، إنه "مقام التفكير".

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
تحميل المزيد