لم يكن يتخيل يوماً هذا اللقاء، أو أن يتيح لهم القدر تلك الفرصة، هو الذي ظل يُحبها 7 سنوات متتالية دون أن تحاول أخرى أن تحل محلها ولو لثانية، نوعٌ من الحب العذري إذا شئت أن تُسميه، المهم أنها ملأت العين والقلب، فلا يهنأ ولا يطيب حاله إلا إذا سمع صوتها ولو حتى صُدفة.
قد شغفها حباً؛ لذلك كانت هي الأخرى دائمة التردد على دُكانه الصغير، بدلال معهود تطلب منه في كُل صباح "عايزه الأهرام"، جريدة الأهرام، هو كشك صغير لوالده يبيع فيه الجرائد، رغم أنه في كلية الهندسة، إلا أنه لم يستطع يوماً أن يقنع والده أن يترك "بيع الجرائد"، "الجرايد دي اللي عملت منك بني آدم"، هكذا كان رد والده الدائم، لذلك ارتضى لنفسه أن يذهب بدلاً من والده ليجلب الجرائد والمجلات من محطة "القطار" في كل صباح ويبيع بدلاً منه حتى يأتي والده ويتسلم "العُهدة" أو الدكان، ويذهب الباشمهندس إلى جامعته بعد أن يسمع بأذنه دعوات والده له بطوال العُمر وبركة الرزق وراحة البال.
( 2 )
كان يعلم أنها في السنة الثانية بكلية الآداب، فمن يعلم غيره وهو الذي ينتظرها يومياً أمام باب الجامعة حتى يراها فقط، هي تعرف أنه ينتظرها ولا يطيب لها حال إلا عندما تلمحه بعينيها، حُبٌ دفين يسكن قلبيهما، ولا ينتظر فقط سوى الشجاعة، شجاعة البدء.
حاول يوماً أن يتغلب على خوفه، فاقترب منها وهي خارجة من الجامعة وناداها وهي وسط زميلاتها التي اعتادت الخروج معهن، لكنها ارتبكت كثيراً، وخاصة عندما ضحكت إحدى زميلاتها – غمزاً ولمزاً – مما دفعها أن توبخه، لم يفهم حينها أنه "حب"، غريب أمر الفتيات في مجتمعنا هذا، عليك أن تحصل على 3 ماجستير و5 دكتوراه في علم النفس حتى تفهمهن أو تتعرف على ما يدور في أذهانهن، ولن تقوى على ذلك.
لكنها سرعان ما اعتذرت ذات صباح وهي تشتري منه "الأهرام"، قالت بخجل: "آسفة"، وأسرعت وكأنها شبح، جميلة هي بدايات الحُب، هي النعيم ولا ريب، التمنع والاشتياق والسهر والانتظار، وكل شيء في بداية الحُب ستجد له طعماً ألذ من الحب ذاته.
( 3 )
اشتعل الحب في القلوب، وبدأت لقاءاتهما العابرة، تُطيل الانتظار معه كُل صباح وهي تشتري الجرايد، يتمشى معها ذهاباً وإياباً إلى الجامعة، عاشا كحبيبين وغمرت السعادة حياتهما منذ ذلك الحين، اعترف أنه كان يُحبها منذ كانت صغيرة وهي في الثانوية العامة وحتى وهي في الإعدادية، عرفت أنه لم يعرف غيرها، بل كانت متأكدة من ذلك أصلاً، فهي الأخرى كانت تراقبه وتحبه دون أن تخبر أحداً، أو تمتلك الجرأة لتعبر له عن ذلك.
تعاهدا على الزواج والبقاء والحياة معاً، سنة واحدة على تخرجه من الجامعة؛ ليصبح "باشمهندس ملو هدومه"، لا يعيبه سوى أن أباه بائعٌ للجرائد، هل هذا عيب؟ أعتقد لا يكون عيباً إلا إذا كان والدها وكيل وزارة، صحيح أنهم ليسوا من فاحشي الثراء، لكنه يمتلك من الكبر والغطرسة ما يكفي بلاداً؛ لذلك كان من الصعب أن يوافق هكذا بسهولة، فهو الذي كان يرسم لزواج ابنته من ابن "عبدالحميد" باشا رجل الأعمال الذي تعرف عليه في أحد نوادي الباشاوات، كان قد طلب منه خدمة متعلقة بالوزارة التي يعمل فيها واستجاب له بسرعة البرق، فمثل هذه المعارف لا يجب أن يتأخر عليهم أحد.
بدأت بينه وبين عبدالحميد باشا نوع من الصداقة، ربما وجد رجل الأعمال هذا فيه سلواناً أو شيئاً لا يعرفه أحد سواه، المهم أنهما أصبحا على علاقة جيدة، مما دفع عبدالحميد باشا إلى أن يسأله ذات يوم: "هيا بنتك في سنة كام دلوقت؟"، فرح بهذا السؤال جداً، "كبرت وبقت عروسة، في سنة تانية كلية دلوقت"، اعتقد – في خيالاته- أن هذا السؤال بمثابة "قراية فاتحة" ربما هو فقط الذي فتحها دون علم "عبدالحميد" باشا الذي سأله مجرد سؤال عابر، ربما يحمل هذا السؤال من السوء ما لا يقوى على احتماله.
( 4 )
"بابا أنا جايلي عريس"، هكذا قالتها دُفعة واحدة، لم يبدِ أي تعارض حتى يتعرف على صاحب النصيب، لكنه سرعان ما ثار وغضب، ثورٌ هائج، تحول فجأة من الحنية والطيبة إلى قساوة القلب والغطرسة، "ابن بياع الجرايد، أنا أحط إيدي في إيد بياع جرايد؟، على جثتي".
تحولت فجأة من وردة جميلة متفتحة إلى شيء ذابل لا روح فيه، أخذ "كلام والدها" من قلبها ما أخذ وفعل بها ما فعل، لم تتعود على تلك القسوة منه أبداً، فلم تكن تعرف سبيلاً للطمأنينة بعد وفاة والدتها إلا معه، كان لها الأم والأب والصديق، لكنها لا تعرف كيف انقلب هكذا إلى شخص آخر لا تعرفه ولا تريد أن تعرفه.
خبأت على حبيبها ما صدر من أبيها وكتمت في نفسها، هو لاحظ تغير مزاجها وحالها، سألها مراراً عن سر كآبتها المفاجئة هذه وماذا حدث، لكنها طالما أنكرت، أكدت أنه "قلة نوم مش أكتر" لم يقتنع لكنه لم يرد أن يضغط عليها أكثر من ذلك وترك الأمر لها، "أكيد هتحكي لما تحب".
( 5 )
لم يكن أبوه يعرف عن أمر حبه هذا حتى جاءت سيارة بها ثلاثة أشخاص بأجساد ضخمة، معهم "شوم وعصي" بأحجام كبيرة، قصدوا أباه والدكان، كسروا خشب "الدكان" على رأس الرجل العجوز، مُحذرين إياه بأن يبتعد ابنه عن "البنت"؛ لأنها ليست من "توبه" إذا كان يريد لابنه البقاء على "وش الأرض".
يا لقمة الوجع عندما تجد أباك هكذا ملقى على الأرض في دمهِ، حمله على كتفه سريعاً نحو أقرب مستشفى، بدا غاضباً، محتاراً، عاجزاً، كل المشاعر ألمت به في ذلك الوقت، وخاصة عندما عرف من أبيه من الذي فعل ذلك الأمر الشنيع.
"ولا يهمك يا حبيبي، أنا كنت شاب زيك وعارف يعني إيه حب"، هكذا كان رد والده عندما اعتذر له؛ لأنه لم يخبره بأمرها من قبل، لكنه وعده بأنه لن يخفي عنه أي شيء من الآن.
عزم على أن يذهب إلى والدها ليواجهه، يواجهه بحبه لابنته وتمسكه بها، بافتخاره بوالده الذي رباه فأحسن تربيته، بعزته بنفسه وطموحه وإصراره.
( 6 )
سخر منه والدها سخرية السنين، أمام عجزها التام ومحاولاتها المستميتة تجاه قسوة والدها في الدفاع عن حبيبها الغاضب، خرج عاقداً النية على الفوز، ربما يلتقي بها في الجامعة ويجدا حلاً لهذه الورطة، ولكن يوماً فآخر لا يوجد لها "حس ولا خبر"، سأل عنها جميع صديقاتها لا يعرفن عنها شيئاً سوى أنها أخبرتهن منذ يومين – في اتصال هاتفي" أنها في إجازة؛ لأن "باباها" مريض.
كانت هذه الحجة، لكن الحقيقة أن أباها قد منعها من الخروج، حبسها ظناً منه أنها هكذا بعيدة عنه، لكنه المُحال.
زارتها ابنة عمها في البيت، والتي توسلت إلى والدها أن تذهب معها لتبيت في بيت عمها حتى تخرج من "مود الزعل والكآبة ده"، فوافق والدها بعد إلحاح بنت أخيه، التي أكد عليها ألا تخرجا لأي مكان سوى البيت، أكدت البنت ذلك – أمامه فقط – فهي تعرف كُل شيء، بل هي اتفقت أصلاً معه ومعها على ذلك حتى تُتيح لهما اللقاء.
( 7 )
كان ينتظر "عبدالحميد" باشا في ذلك اليوم، نعم فقد أخبره أنه سيزوره مساءً لأمر مهم، لم يعرف منه درجة الأهمية عندما هاتفه، لكنه خمن أنه مشروع "جوازة"، وكان تخمينه في محلهِ.
"أومال العروسة فين؟" رماها عبدالحميد هكذا دونما مقدمات؛ ليرد والدها بسعادة بالغة: "راحت تزور عمها، أومال البيه الصغير مجاش معاك ليه؟"، "بصراحة أنا حبيت الكلام ده يكون بينا إحنا بس، وكمان يا ريته ما يعرفش، ع الأقل دلوقت"، لم يفهم لماذا طلب منه ذلك الطلب الغريب، فكيف يأتي ليطلب منه أن يزوّج ابنه لابنته ثم لا يأتي معه، بل و يطلب منه ألا يخبره؟ كان هذا الحديث الذي دار بينه وبين نفسه حتى قاطعه عبدالحميد باشا في جملة واضحة لا تقبل اللبس: "أنا عايز أتجوز السنيورة الصغيرة، إيه رأيك؟".
هناك بقية للقصة لا أجد أنها ستفيد الآن، كما أنها من خيال الكاتب، ولا تمتّ للمجتمع بِصِلة.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.