"عندما أمُرُّ بالشوارع والأزقة هائماً متأملاً فيما فعله الزمن بمدينة كانت بالأمس على شكل وأصبحت على آخر، أنا الذي أُحِلْتُ على التقاعد منذ زمن وأضْحَت اهتماماتي مختلفة عما كانت عليه بضع سنين من قبل.
ألقي نظرة على من أتوا بعدي في ترتيب الزمان، وأرى في أعينهم المشاكِسة اليَفْع والتطلع للمستقبل.. والكثير من الأسئلة.
أرى فيهم ما لم أستطِع تحقيقه ولم أقوَ على إنجازه، أرى فيهم الغد، ولو أنه يبقى غامضاً وأحياناً مظلماً.
إنهم يركضون في جميع الاتجاهات، مسرعين نحو ما يعتبرونه معنى لحياتهم، فيكتشفون بعد حين كما اكتشفتُ أنا من قبلهم بكل حسرة أن المعنى لم يكن أبداً فيما ركضنا خلفه طول الحياة… حديث رجل ناضج مع نفسه، رجل اكتسب تجربة، اشتغل حتى انقطع نفسه، ربى أبناءه حتى اكتسب كل منهم استقلاليته واختار طريقه، يعيش ما تبقى من عمره على ذكريات الزمن الجميل، ما قبل ظهور التكنولوجيا واستحواذها على العقول.. ويشرب القهوة بتأنٍ لم يكن حليفه في الماضي.
هو حديث كل من ينتمي للأجيال الغابرة عن الشباب حالياً، تعبير فيه حسرة عن زمان كان أفضل ومجتمع كان أرقى، عن فترة كان فيها كل شيء جميلاً وواضحاً: القيم، المبادئ، المشاعر… وعن وقت كان فيه كل شيء في مكانه وكان فيه معنى لمقولة "لكل مقام مقال".
أتفهم وأحترم هذه الرؤية لأسباب عدة، أجدادنا عاشوا الحروب والنكبات وآباؤنا تحدوا الصعاب والنكسات وصمدوا وصبروا، كان كل شيء لديهم مرتبطاً بالأخلاق وكان لاحترام الكبير قداسة ولتربية الصغير مكانة ولو أننا ربما لا نتفق مع طرقها القديمة.
كان للقيم المجتمعية وللأسرة معنى وهدف ولم تكن مجرد شعارات يُتغنى بها في اللقاءات التلفزيونية والمؤتمرات.
كان الشباب نواة البلد والصورة التي ستكون عليها في المستقبل، فإن صلُح صلحت أحوالها وإن فسد فسدت.
لم يكن لانعدام الأخلاق ولا للكلام النابي ولا للأغاني الهابطة أي مكان في مجتمعاتنا العربية على الخصوص والتي كانت تحترم نفسها وتحترم الآخر.
كانت البساطة جوهر كل شيء ومكمنه، وكان الصدق غالباً على الكذب والخداع.
تطورت المجتمعات وتدهور فكرنا وتراجعت ثقافتنا. تضاءلت قيمنا ونسينا ديننا وغلب علينا التقليد الأعمى.
الشباب جزء لا يتجزأ من منظومة أبانت عن سلبيات عدة أدت إلى تشكّل هوة كبيرة بين ما يطمح إليه هؤلاء الشباب وما هو مرسوم لهم من قبل مؤسسات ليست دائماً على علم بما هو أفضل لهم.
كما يواجه الشباب العربي اليوم إشكالية اللاوعي بهمومه واحتياجاته الحقيقية والتي تقف أمام رغبته في العمل على التغيير. ويمكن تقسيم هذه الفئة إلى أصناف:
شباب اختار الحزب السياسي للتعبير عن رغبته في التغيير، شباب اختار العمل المدني للتعبير عن رغبته في التغيير، شباب اختار الإبداع للتعبير عن ذاته في المجتمع، شباب اختار الدين لإيجاد الأجوبة على أسئلته، ثم هناك شباب على هامش المجتمع، وهنا يكمن الخطر.
لذا يتوجب بلورة سياسة عمومية للشباب تنطلق من منهجية جديدة قائمة على مقاربة تشاركية وطبقاً للحاجيات الجديدة للشباب، بالإضافة إلى سياسة تدبيرية جديدة للقطاع (مع هيكلة جديدة).
من غير هذا فتبقى جميع المحاولات مجرد تخبط في الفراغ، الشيء الذي لن يخدم لا الجيل الحالي ولا الأجيال القادمة.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.