العلمانية ليست حلا … هذا ما يقوله العقلاء

المبادئ والعقائد العلمانية كثيرة ومتناقضة، ولا يوجد نظام علماني متفَق عليه، أو حتى خطوط عامة، فمن ناحية نظرية وواقعية أصبحت أمتنا بلا دستور، وبلا عقيدة، وبلا ن

عربي بوست
تم النشر: 2018/01/28 الساعة 04:44 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2018/01/28 الساعة 04:44 بتوقيت غرينتش

حاول الدكتور المسيري (رحمه الله) أن يشرح لإحدى العلمانيات الفرق بين الإنسانية والعلمانية الشاملة، ولكنها أصرت على أن ما تنادي به هو العلمانية الوحيدة والحقيقية، وأنها مع ذلك تفعل الخير وتؤمن بالقيم الأخلاقية المطلقة. فقال لها ضاحكاً: "في هذه الحالة ستذهبين للجنة وستذهب أفكارك إلى النار".

العلمانية -كما يصفها د.سعيد إسماعيل علي- تطالب الدين عموماً، وفي المقدمة الإسلام بطبيعة الحال، بأن يُخلي الميدان لأشكال جديدة من المؤسسات والعلاقات الاجتماعية. كما تزعم العلمانية أن الدين المُنظِّم للمجتمع لم يكن أمراً مريحاً، وأن العلمانية هي الأداة المناسبة لنقل الدولة الوطنية في مجالات الأيديولوجيا والقانون والبيروقراطية.

وقد قامت العلمانية، فى معظم الأحيان، على مرتكزات سطحية، حيث زعمت أنها تتطابق مع عصر العلم والواقعية والتقدم، بينما اتَّهمت الدين بترويج القيم المضادة لتلك القيم، وهي مزاعم أبعد ما تكون عن الحقيقة. ودعوى العلمانية هذه منافقة في أغلب أحوالها. "فلا يوجد مجتمع يستطيع أن يدّعي استبعاد القيم على الإطلاق في تقرير شؤونه، أو أنه يقرر شؤونه بقيم ليست نابعة بالمرة من تراثه الديني" (إسماعيل الفاروقي).

فالإنسان لا يمكن أن يعيش بلا تراث، وحيث إأنه لا بد أن يكون لحياته هدف ومعنى، عندها تبدأ حالة القلق والتساؤل، ومع هذا الفراغ، يجد الإنسان العربي نفسه مدعوّاً لتقبُّل التراث الغربي. لكن هذا الأمر يعدُّ مستحيلاً؛ لأنه لا يمكنك أن تصبح الآخر؛ لأنك مهما حاولت أن تصبح الآخر فستكون باستمرار من الدرجة الثانية.

والحضارة العلمانية في العالم العربي حددت المشروع الحضاري العربي بأنه اللحاق بالغرب، وهذه العملية تستوجب قتل الإبداع، فحتى أكون "أنا" "هو" يجب أن نكون "قِرَدة"، ويتحتَّم أن يقودنا متوسطو الذكاء القادرون على التقليد، أما هؤلاء القادرون على الإبداع، فهم خطرون؛ لأنهم قد يقودوننا إلى مسارات خاصة تبعدنا عن المسار الذي تحدده الحضارة العلمانية في العالم العربي، كما سماها الدكتور المسيري.

كما أن المبادئ والعقائد العلمانية كثيرة ومتناقضة، ولا يوجد نظام علماني متفَق عليه، أو حتى خطوط عامة، فمن ناحية نظرية وواقعية أصبحت أمتنا بلا دستور، وبلا عقيدة، وبلا نظام، وبلا رؤية، وبلا قوانين. فالعلمانية تستطيع تبرير كثير من الانحرافات، ولهذا استغلها المنحرفون من زنادقة، وظلمة، وأصحاب المصالح، وهذه هي مصيبة العلمانية الكبرى؛ لأن للعدل والحرية والديمقراطية… إلخ معاني متناقضة بين علماني وآخر، فالمخلصون ضائعون، والمنحرفون وجدوا فيها المبررات التي يحتاجونها.

وهذا ما جعل د.المسيري يؤكد أن "وحدة الوجود" هي مقدمة العلمانية، التي تبدأ بأن تجعل الإنسان مرجعية ذاته، ولعل هذا يفسر لِمَ يهتم كثير من المفكرين العلمانيين بابن عربي والحلاج، وأبي حيان التوحيدي، وجلال الدين الرومي، ويكتبون الدراسات التي تؤكد توجُّههم الحلولي، ومن الملاحظ أن أعمال ابن عربي وجلال الدين الرومي تترجَم إلى كثير من اللغات الأوروبية، وقد أحرزت هذه الترجمات شيوعاً كبيراً؛ بسبب وجود تربة حلولية خصبة في المجتمعات العلمانية.

إن الخطاب العلماني خطاب حلولي، وهو خطاب يؤلِّه الإنسان، وحينما يؤلِّه الإنسان نفسه فإنه يلغيها. فالإنسان لا يمكن أن يكون إلهاً ولا يمكن أن يكون حيواناً، يمكن أن يكون إنساناً فحسب، فإن ألَّهتَه ألغيتَه. وقد أوصت لجنة حرية الأديان -جاءت من الكونغرس- أوصت بنشر الفكر الصوفي؛ لأنه يسرب طاقة المجتمع الإبداعية والثورية من خلال قنوات فردية، فتجعل كل فرد مشغولاً بنفسه، وهذا من أهم سمات الرؤية العلمانية.

العلمانية الشاملة كما فصَّلها د. المسيري، وأفرد لها كتاباً من جزأين (العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة)، ليست فصلاً للدين عن الدولة؛ بل فصل لكل القيم عن مجمل حياة الإنسان، ونزع للقداسة عنه بحيث يتحول العالم إلى مادة استعمالية يوظفها القويُّ لحسابه، وهو ما يؤدي إلى الحداثة (الداروينية) وتحويل العالم إلى حلبة صراع، فهي علمانية تنكر إنسانية الإنسان، فيتمرد عليها كل من يهتم بمصير الإنسان في هذه الأرض.

العلمانية فصل للقيم الإنسانية والأخلاقية والدينية عن الحياة في جانبيها العام والخاص، ونزعٌ للقداسة عن العالم، بحيث أصبحت كل الأمور نسبية. وهي الرؤية نفسها التي صرح بها (بن غوريون) بأن خير مُفسِّر للتوراة هو الجيش الإسرائيلي، فالمسألة علمانية داروينية محضة أولاً وأخيراً.

إننا في العالَمين العربي والإسلامي، وفق الإدراك الغربي، مجرد شيء قد يصلح للاستخدام أو الاستعمال، وهذا أحد تعريفات د.المسيري للعلمانية بأنها: "تحويل كل شيء إلى مادة استعمالية". وهو أيضاً ما يلاحظه المدرك لطبيعة الاستهلاك، وتسليع كل شيء، و(حَوْسَلة)، أي تحويل كل شيء إلى وسيلة، فعدد الأقواس الصفراء، علامة (ماكدونالد) يفوق عدد الصلبان في العالم الغربي!

العلمانية ليست أقوالاً ولا أفعالاً واضحة أو فاضحة، إنما هي منظومة فلسفية كاملة، تتبدى في مجموعة تفاصيل، وعمليات، وإجراءات، وسلوكيات، قد لا ندرك بشكل مباشر أثرها علينا، وعلى رؤيتنا لأنفسنا ولغيرنا.

إن العلمانية نشأت حين كان الناس يظنون أن العلم يناقض الدين، وأن الدين والإيمان لا يدخل إليهما العلم، فالدين والإيمان فوق العلم عند البعض، وخارج العلم عند قوم آخرين، وضد العلم عند فريق ثالث (جودت سعيد).

فالعلماني براغماتي التصور، معبوده مصلحته، فأينما وجدها فثمَّة وجود الإله، وهو ما قاله (جون جونز) بوضوح ودون مواربة، في كتابه "في داخل أوروبا": "إن الإنكليز يعبدون بنك إنكلترا ستة أيام في الأسبوع، ويتوجهون في اليوم السابع إلى الكنيسة"!

هذا بالفعل هو ما غاب عن أذهان العلمانيين والماديين، ومن على شاكلتهم، فقد أضاعوا الأهداف الكبرى جملةً، كما عبَّر عن هذا أينشتاين بقوله: " إن حضارتنا تمتلك معدات كاملة، لكن الأهداف الكبرى غامضة".

والعلمانيون -كما يقول (الدويهيس)- كالفلاسفة في كل زمان ومكان يقرأون كثيراً، ويجادلون كثيراً، ويكتبون كثيراً، ولكنهم لا يتفقون على شيء، والسبب ببساطة: هو أنهم لم يصلوا إلى حقائق واضحة يتفقون عليها مع أنهم استخدموا عقولهم كثيراً.

وهو ما تناوله بالنقد د.نبيل علي في كتابه "الثقافة العربية وعصر المعلومات" حول حوار العلمانيين والإسلاميين، حيث قال: "حوار العلمانيين والإسلاميين ليس حواراً بالمعنى الصحيح، وفي زعمنا أن هذين التيارين الفكريين يتحاوران (عن بُعد)، من خلال الوسيط الغربي، فالإسلامي يتربص برواسب الفكر الغربي في تيارنا العلماني، في حين يستنكر العلماني على تيارنا الإسلامي عدم استيعابه إنجازات فكر الغرب".

وسواء اتفقنا أم اختلفنا مع هذا التوصيف، إلا أن الواقع يقول إن التمترس حاصل بين الفريقين، وإن اختلف في القوة من طرف إلى آخر. والفكر الهزيل -دائماً- يحتاج للبطش ليحميه، ومع هذا لم ينفع الاستبداد، فقد سقطت الشيوعية سقوطاً خيالياً، وفشلت سياسياً وعقائدياً واقتصادياً، فالقوة لا تستطيع حماية الجهل العلماني طويلاً.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
تحميل المزيد