ابتداءً من عهد السلطان سليمان القانوني، ظهرت محاولات متكررة من طرف الحرملك أو نساء الحكم في البلاط العثماني لتقلُّد أدوار مختلفة في الدولة، تركت آثاراً عميقة في بِنْية الدولة الداخلية على المدى البعيد، فقد تسببت في التقليل من شأن السلاطين وإقصاء بعضهم وإشغالهم بعيداً عن شؤون الحكم، وربما قتل بعضهم أحياناً، حتى استطاعت بعض أمهات وزوجات السلاطين بناء كيانات داخل الدولة وأصبح لهن مؤيدون من الوزارة والجيش.
ومن الجدير بالذكر أن من أهم عوامل التوقف؛ بل حتى التقهقر في الدولة العثمانية، تدخُّلَ زوجات السلاطين وأمهاتهم طوال ما يقارب قرناً من الزمان في أمور الدولة.
وكان لنساء القصر تأثيرهن القوي على السلاطين، وخصوصاً في القرن السابع عشر، حيث كانت الدولة في بعض الأوقات تحت حكمهن.
تعتبر تدخلات أمهات وزوجات السلاطين في الحكم صورة من صور الفساد الشديد الذي أصاب الدولة العثمانية خلال الفترة الواقعة بين وفاة السلطان سليمان القانوني وتولية السلطان مصطفى الرابع العرش في عام 1807م، فقد حكم خلال هذه المدة 18 سلطاناً، لم يكن أحد منهم على مستوى يؤهله لأن يمارس الحكم.
والغريب في الأمر أن بعض الزوجات الكتابيات كنَّ يتظاهرن باعتناق الإسلام، ويتظاهرن بحب أزواجهن السلاطين؛ بل ويتظاهرن بولائهن للدولة العثمانية، ولكن كانت كل منهن تخفي بين ضلوعها حباً وولاء لوطنها الأول، وتعمل على تنفيذ برنامج حكومة بلادها لتحقيق مصالح وطنها حتى لو كان هذا البرنامج يضرّ.
لا شك في أن الاضطراب والتدهور الذي حدث في شؤون الدولة العثمانية كان من أسبابه المباشرة -مع عوامل أخرى- تدخُّل النساء الأجنبيات، من زوجات وأمهات السلاطين، في شؤون الحكم، وعندما نتابع الأحداث بهذا الشأن نجد أنفسنا لا نستطيع التفريق بين إبراهيم باشا والسلطان سليمان، رغم المسافة الكافية للتفريق بين العبد وسيده.
كانت "حفصة سلطان"، زوجة السلطان سليم الأول، وأم السلطان سليمان الأول، المعروف بـ"القانوني"، ذات تأثير قوي على ابنها، لكنها لم تستخدم هذا التأثير في الاتجاه السلبي، ولعبت دوراً إدارياً في القصر بالمعنى التام، وذكرت المصادر أيضاً أن حفصة سلطان قد بذلت قصارى جهدها، وعملت من أجل منع "خورم سلطان"، زوجة "القانوني"، من الاستحواذ على النفوذ بالقصر والدولة.
وفي عهد السلطان سليمان القانوني، احتدّ الصراع بين زوجتيه "خورم سلطان"، و"ماهي دوران" أم الأمير مصطفى، ولي العهد الشرعي للسلطان سليمان، وكان معروفاً في الأوساط العثمانية، محبباً إلى الجيش والشعب، غير أن "خورم سلطان" والصدر الأعظم رستم باشا، كانوا يميلون؛ بل يعملون من أجل تولي بايزيد العرش.
ولنذكر هنا حادثة شنيعة، وهي قتل السلطان ولده الأكبر مصطفى بناءً على دسيسة روكسلان، حتى يتولى بعده ابنها سليم، ولِما لها من الثقة بالصدر الأعظم رستم باشا، فما زالت تساعده حتى زوجَّه السلطان ابنته منها، فانتهز الوزير فرصة الحرب بين الدولة ومملكة العجم، ووجود مصطفى ضمن قواد الجيش، وكتب إلى أبيه بأن ولده يحرض الانكشارية على عزله وتنصيبه، فلما وصل هذا الخبر إلى السلطان استدعى ولده المسكين وبمجرد وصوله خنقه بعض الحجَّاب، فقُتل -رحمه الله- شهيد دسائس زوجة والده، وكانت هذه الشنعة الشنعاء نقطة سوداء في تاريخ السلطان سليمان.
كما تدخلت "صفية سلطان" في عهد ولدها محمد الثالث مباشرةً في شؤون الدولة والتعيينات الإدارية، وكان بفطرته شخصاً ضعيفاً وساذجاً وموسوَساً، وقع تحت تأثير والدته السلطانة "صفية" بشكل كبير.
استحوذت "صفية سلطان"، في عهد ابنها محمد الثالث، على السلطة تماماً وبصورة قوية، وتمسكت بإبراهيم باشا زوج ابنتها "عائشة سلطان"، وجعلته في منصب الصدر الأعظم، بضع مرات، واستخدمته في أعمال سيئة للغاية، وقامت بكل شيء من أجل عدم محاربة الدولة العثمانية للبندقية، وساعدت الإنكليز في النواحي الاقتصادية والتجارية والسياسية، وكان رجال الدولة والوزراء والشرفاء يوضحون ويحكون لمحمد الثالث باستمرار عن تدخلاتها في شتى الأمور وانحرافاتها.
وبعد وفاة محمد الثالث، تولى الحكم مكانه أحمد الأول، فمنع نساء القصر من استخدام نفوذهن، ولم يسمح لنفسه بأن يكون ألعوبة في أيديهن، فقام بإرسال "صفية سلطان" إلى أسكي سراي، وحال بذلك دون تدخُّل النساء في أمور الدولة.
كما كان لـ"خاندان سلطان"، وهي والدة السلطان مصطفى الأول، دور في تحريك فتنة آغوات الانكشارية ضد السلطان عثمان الثاني، بهدف إعادة السلطان مصطفى الأول للعرش، وهذا ما تم بعد قتل السلطان عثمان الثاني، وقد اعتُبرت هذه الحادثة من أخطر الحوادث مأساوية وتأثيراً في التاريخ العثماني.
أما "كوسم سلطان" زوجة السلطان أحمد الأول، وأم السلطانين مراد الرابع وإبراهيم الأول، فقد شاركت بقيادة الدولة في أثناء حكم ابنيها؛ مراد الرابع وإبراهيم الأول، وبداية عهد حفيدها محمد الرابع، بصفتها والدة سلطان أو نائبه. ولقد نسبت إليها المصادر أنها كانت السبب في أحداث كثيرة غير مشرّفة، لم تكن تخدم المصالح الوطنية للدولة، كانت ذكية بدرجة استثنائية، ماكرة مراوغة، خبيرة في وضع الخطط السياسية المحكمة، والمؤامرات المتعددة الوجوه، وقد وصلت ثروتها لحد فاحش، انتقلت بعد وفاتها إلى خزينة الدولة.
ونتيجة لذلك، قام السلطان إبراهيم الأول بإبعاد والدته من القصر السلطاني؛ لمعرفته بمدى تهالكها على السُّلطة، ورغم ذلك يصعب القول إنه قد نجح في كبح جماحها.
وفي بداية عهد السلطان محمد الرابع، كانت "كوسم سلطان" قد عيَّنت أتباعها في المناصب الإدارية الرئيسية، وأصبح القصر مسرحاً لصراع مستمر بين "كوسم سلطان" و"خديجة طورخان سلطان" زوجة السلطان، ثم نجحت الزوجة في التخلص من حماتها، وفشلت "كوسم" في إحلال سليمان الثاني مكان محمد الرابع؛ لأنها اعتقدت أنها تستطيع التلاعب بشكل أفضل بأم سليمان.
واضطلعت "خديجة طورخان" بعدها بالدور بصفتها والدة السلطان؛ لعدم قدرته على الاضطلاع بالمهام بصفة كاملة، وهكذا كانت "طورخان سلطان" على النقيض والعكس تماماً من "كوسم سلطان"؛ إذ اطلعت بدور إيجابي كبير في فترة تعتبر من أسوأ الفترات، فقد انتشرت الفوضى في الأقاليم، وسيطر الثوار على بعضها، وازداد نفوذ الانكشارية، وانتشرت الرشوة والفساد، وازدادت أطماع الدول الأجنبية، حتى قيَّض الله لها محمد كوبريلي باشا، فعينته في منصب الصدارة.
يمكننا القول إن هذا التدخل قد توقف في زمن السلطان عبد الحميد الثاني، الذي كان على اعتقاد بأن طمع الأميرات الوالدات ساق أولادهن إلى الكارثة، وكان مؤمناً بأن تدخُّل والدة السلطان عبد العزيز ووالدة السلطان مراد في شؤون الدولة أمر لم يسفر عن نتائج طيبة، لا للدولة ولا للأسرة المالكة، فكان أول ما فعله في اليوم التالي لتوليه العرش، أن قبَّل يد مربيته وقال لها: لقد جعلتك السلطانة الوالدة "… أرجو منك بصورة خاصة أن تتجنبي أبداً التدخل في شؤون الدولة: فتستعين لحماية هذا أو ذاك، وتساعدين الطامعين في الرتب والمناصب". وانصاعت هي لهذا الأمر تماماً.
وفي حديثها عن مربِّية أبيها، تقول "عائشة عثمان أوغلي"، ابنة السلطان عبد الحميد الثاني: "وقد ظلت كذلك حتى وفاتها، راعيةً لإرادة والدي ورغبته، وكانت زوجات والدي وحتى بناته اللاتي تزوجن وصرن صاحبات بيوت في المدينة، يحتذين حذوها في هذا الخصوص، ويسلكن الطريق نفسه".
كما أن السلطان عبد الحميد عندما كانت تقل أعماله، يرسل الخبر إلى من يريد من زوجاته وبناته، فيأتين ويتحدث إليهن. وكان لا يدع الفرصة لإحداهن أن تتدخل في الشؤون الرسمية؛ سواء أكانت من زوجاته أو كانت من بناته.
يتبين لنا مما سبق أن تدخلات أمهات وزوجات السلاطين العثمانيين في الحكم، وإن كان في بعض الأحايين إيجابياً، إلا أنه كان في أحايين أخرى كثيرة كارثياً وجرَّ على الدولة مآسي كانت سبباً في ضرب نسيجها الداخلي، كما ساهم في تراجع دور السلاطين وشجع الفساد بين رجال الدولة، فاستفحلت الرشوة وقويت شوكة الجيش حتى صار عبئاً على الدولة؛ بسبب زيادة حالات التمرد والعصيان، فتم استبعاد الكفاءات من مناصبهم، وقتلهم أحياناً، وتقريب المنتفعين، الأمر الذي جعل السلاطين ألعوبة بيد الجيش والنساء؛ فتارة يُعزل، وتارة يُحبس، وتارة يُقتل.
وقد أكد المؤرخون أن هذا التدخل كان من أهم عوامل التقهقر في الدولة العثمانية؛ إذ نتج عن تدخلهن وقائع وحوادث سيئة وأليمة في التاريخ العثماني، لا سيما أنها كانت -على عللها الأخيرة- حصناً منيعاً للإسلام وسوراً قوياً واسعاً للأقطار العربية والإسلامية.
المصادر والمراجع
[1] أحمد آق قندز وسعيد أوزنورك، الدولة العثمانية المجهولة، وقف البحوث العثمانية، إسطنبول: 2008، ص285.
[2] محمد أحمد محمد الثقفي، زواج السلاطين العثمانيين من الأجنبيات ئوأثره في إضعاف الدولة، رسالة ماجستير، جامعة أم القرى بمكة المكرمة ص119.
[3] يلماز أوزتونا، تاريخ الدولة العثمانية، ترجمة عدنان محمود سلمان، منشورات مؤسسة فيصل للتمويل، تركيا، 1408، ص497.
[4] صالح كولن، سلاطين الدولة العثمانية، دار النيل للطباعة والنشر، ط2، 201م، ص187.
[5] مذكرات الأميرة عائشة عثمان أوغلي، والدي السلطان عبد الحميد الثاني، دار البشير للنشر والتوزيع، عمان، ط1، 1991م، ص179.
[6] محمد حرب، العثمانيون في التاريخ والحضارة، المركز المصري للدراسات العثمانية، القاهرة، 1414هـ، ص29.
[7] أبو الحسن علي الحسني الندوي، ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين؟ دار القلم، دمشق، 2012.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.