يمكن أن نطلق على مسيرة الإنسان الطويلة منذ الإنسان الأول (ينبغي التوقف هنا عند مفهوم "الإنسان الأول" فمن وجهة النظر الدينية فإن آدم هو ممثل هذا الإنسان، والحقيقة أن آدم لم يكن محتاجاً لأي بحث عن المعنى؛ لأنه كان منغمساً في المعنى تماماً. فطبقاً للنظرة الدينية وقصته المشهورة فإنه كان على "تماس" مباشر بالله. ولكن من وجهة النظر "العلمية"، فإن الإنسان الأول يفقد صيغته الشخصية -أي أنه ليس شخصاً بعينه- ليتخذ صيغة جماعية. وذلك بعد تطورات معينة مر بها الجنس البشري حتى اكتمل نضجه الفسيولوجي، الذي رافقه لحظة انبثاق الوعي الإنساني "الأول"، وأقصد به وعيه بذاته وبالعالم من حوله).
بعد هذا التوقف أقول بأننا يمكن أن نطلق على مسيرة الإنسان أنها "رحلة بحث عن المعنى".
إن وعي الإنسان تضغط عليه لحظتان حادتان تجعلانه في حالة قلق "دائم"؛ اللحظة الأولى: الولادة، التي يجهل الإنسان ماذا كان يمثل قبلها (هنا أيضاً نظرتان: دينية، وعلمية). واللحظة الأخرى: الموت، الذي يجهل الإنسان ما بعده تماماً. يتموضع الإنسان إذن بين حدين متنافرين ظاهرياً (ولادة، موت) ولكنهما يضغطان عليه بنفس القوة والدرجة تقريباً (الحقيقة أن الموت أكثر حضوراً وضغطاً).
اضطر للقفز متجاوزاً المراحل الطويلة لهذه الرحلة، والتجليات التي تمخض عنها ذلك البحث، وهي تتمثل في الفلسفات الشرقية الكبرى والأديان، التوحيدية وغير التوحيدية (وهنا يجب أن أذكر مسألة تشغلني كثيراً وهي مسألة توقف إرسال الرسل والأنبياء. فهل يمثل النبي محمد (ص) مرحلة فاصلة بين وعيين للإنسان: وعي ساذج محتاج لقيادة نبوية تربطه بالسماء، ووعي قادر على قيادة نفسه بنفسه؟ قد يبدو هذا تحليلاً مغرياً ولكن بما أن الوعي الإنساني يظل خاضعاً لسلطة النص (توراة، إنجيل، القرآن) وسلطة الفقيه (باللغة الإسلامية) المفسر للنص؛ حينها ينتفي الكلام عن وعي مستقل!
وتجدر الإشارة هنا إلى أن الوعي الإسلامي هو الأشد خضوعاً لسلطة النص، فهو لم يتعرض للضربات الشديدة التي تعرض لها الوعي الغربي منذ نهضته إلى حداثته وما بعدها.
قلت إنني سوف أقفز متجاوزاً مراحل طويلة من أجل النظر في وعي الإنسان الحاضر (أضطر مرة أخرى لأن أفتح هذا القوس وأقول: تجب ملاحظة أن المعاصرة التاريخية لا تعني المعاصرة الفكرية، ولا تعني كذلك أن الوعي ذاته يتوزع بالتساوي أو بشكل متقارب على كل المتعاصرين. من هنا فإن مستويات الوعي الغربي الذي مر من النهضة إلى التنوير ثم الحداثة وما بعدها ليس هو ذاته الوعي العربي – الإسلامي الذي كانت نهضته عبارة عن صحوة من نوم طويل أزعجته مدافع نابليون!).
إن أخذ هذه الملاحظات بعين الاعتبار يتيح لنا ملاحظة اختلافات سعي الوعي باتجاه المعنى لدى إنسان الحاضر.
لنفرق هنا بين مصطلحين: محددات الوعي، والضغوط المسلطة عليه (على الوعي).
لن أدخل طبعاً في البحث عن محددات وعي الفرد المسلم أو الفرد الغربي؛ لعدم اتساع المقام، ولكن المهم أن نعلم أن وعي كل منهما مر بمنعطفات تاريخية واجتماعية وسياسية معينة طبعته بطابع معين.
أما بالنسبة للضغوط المسلطة على الوعي، فبالإضافة إلى الولادة والموت، هناك ضغط الواقع بل وقدرته على تشكيل وبلورة وعي الفرد بدرجة معينة.
ومع أن كل فرد واقع بالضرورة تحت ضغط الولادة/الموت بالدرجة ذاتها، فإن درجة تأثير الواقع متفاوتة لتفاوت منعطفات التاريخ التي يحملها وعي كل فرد، وكذلك مدى تأثر الفرد بمكتسبات الحداثة (استهلاك متسارع حد الهوس، اختلال القيم المطلقة تحت مطرقة النقد الحداثوي، غياب المعنى تحت سطح كثيف من المادية الجافة.. إلخ). حيث إن الفرد الغربي واقع في خضم هذه المكتسبات وتأثيراتها بحيث إنها قد تغلبت تقريباً على الحس الروحي المتعالي عنده، أما الفرد العربي المسلم فهو يعاني تمزقاً حاداً؛ لأنه مرتبط بقيم الروح والتعالي من جانب، وهو واقع تحت تأثيرات مكتسبات الحداثة من جانب آخر.
في الجانب الغربي انسحب الجانب الأخروي (الحياة الآخرة) من معركة الرهان على المعنى فاسحاً المجال للدنيوي.
فنجد هناك الشهرة مثلاً أو تجميع أكبر قدر من الثروة أو تحقيق "حلم ما" يمثل قيمة كبرى في وعي الفرد.
لقد تم "التحايل" على الوعي بخصوص الموت بحيث إنه يدخل في خانة النسيان، أو هكذا في الظاهر، وأقول في الظاهر؛ لأن فترة انخداع الوعي لا تستمر دائماً، هكذا تأتي لحظات حادة ومرعبة تصدم الوعي بالحقيقة الغائبة عنه فيكتشف حينها غياب المعنى الحقيقي في رهاناته السابقة (أحياناً يكون الانتحار هو الحل، أو الاستسلام لعبثية الحياة!).
وقد يقول قائل: إن نسبة المسيحيين الغربيين لا تزال أكبر بكثير من نسبة الملحدين، وهذا صحيح، ولكن هذا الإيمان ليس أكثر من فكرة ربما لا يلتفت إليها المؤمن إلا حين يسأل: هل تؤمن بالله! ولهذا الوضع تفسيره بالطبع، فالغرب لم يكن هكذا دائماً بل كان مؤمناً شديد الإيمان بل ومتعصباً أشد التعصب.
ولكن، كما ذكرت، فإن المراحل التي مر بها هذا الوعي (الغربي) من عصر النهضة إلى التنوير والحداثة، ثم سيادة النظرة العلمية التي أبعدت احتمالية أي "تدخل" لله في العالم؛ أقول كل هذا قد ساهم في أن يتراجع "حضور" الله في الوعي الغربي إلى الظل.
وهذا الكلام بالطبع لا ينفي وجود مؤمنين لا يزالون يأخذون بنظرة الكتاب المقدس، ولكنهم من قبيل الاستثناء الذي يؤكد القاعدة.
أما في الجانب الإسلامي فإن الأمر على العكس تماماً: فلا يزال الوعي "السائد" هو الوعي الذي تحدد على يد "آباء" المذاهب.
وهذا الوعي يقبل بكل يسر التدخل الإلهي المستمر في الكون، وتبلغ به السذاجة إلى درجة يفسر خلالها الكوارث على أساس غضب الله من الإنسان!
ولكن هذا الوعي بدأ يحس بضغط العصر الحديث، وهذا التأثير يظهر بوضوح عند بعض "المثقفين" أو "المفكرين" الذين هم على تماس مع الفكر الحداثي الغربي.
ولكنه ليس مقتصراً عليهم طبعاً، لكنهم ببساطة يستطيعون التعبير بوضوح عن هذا التمزق الذي يعانونه، على عكس الإنسان "العادي" الذي لا يستطيع أن يبلور ما يشعر به بلغة فكرية واضحة، ومع ذلك فإن إحساسه بأن العالم مكان بائس وظالم يظهر في اللغة الدارجة.
يبين لنا هذا الاستعراض السريع والمخل ربما أن الوعي "يتأثر" بدرجة كبيرة بالواقع السائد في عصر ما، وكذلك بالنظرة العامة للعالم، وهذا التأثر ليس تأثراً منطقياً وإنما تأثر نفسي سيكولوجي، فالنظرة العلمية مثلاً، التي تفسر جميع الظواهر الطبيعية بالأسباب والنتائج لا تعني، منطقياً، عدم وجود الله.
فكل ما تبرهن عليه هي أن الكون تحكمه قوانين محددة، ويمكن مع ذلك بمنطق بسيط أن نظل مؤمنين بالله على أنه موجد هذه القوانين وهو الذي يجعله مستمرة.
وهذا بالضبط هو التفسير المطروح لمواجهة الإشكال، ولكن هذا لم يمنع من انحسار الله إلى الظل، فهذا الإله "البعيد" المتواري خلف القوانين لا يتم الالتفات إليه إلا بشكل غامض وبارد (وهذا ما هو حاصل في الغرب كما قلت).
والشيء نفسه يقال عن عبثية العالم التي تضغط على نفوس كثير من الناس، مع أنها تتعارض مع إيمانهم بالله الذي يفترض أنه محض خير، ولكن هنا يتفوق التأثير النفسي على التأثير المنطقي، ويتفوق القلب على العقل.
في خضم بحر الظلمات هذا يظل المعنى هو بقعة الضوء الوحيدة التي يسعى الإنسان للوصول إليها، ومع غياب البرهان القاطع على نهاية إيجابية لهذه الرحلة، فإن الإيمان بها بحد ذاته هو سفينة نوح المنجية من طوفان العبثية.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.