من الواضح أن الكذب استشرى حتى أصبح -للأسف- أشبه بثقافة في بعض مناطق العالم العربي، إن لم يكن جلها، على الرغم مما ورد في الآيات القرآنية من الحض على تحري الصدق ونبذ الكذب؛ لكونه خُلقاً ذميماً وسلوكاً مشيناً، وما ورد كذلك في الأحاديث الشريفة. وجاء في الحديث الشريف: "يطبع المؤمن على الخلال كلها إلا الخيانة والكذب".
ويلاحظ أن الكذب يبدأ من المنزل، حيث ترى الابن يكذب على والده، وترى الزوج يكذب على زوجته في بعض الحالات والعكس صحيح. وفي المدرسة، يكذب الطالب/ة على أستاذه ويكذب الأستاذ/ة على طلبته وعلى مدير/ة المدرسة. وفي الجامعة، ترى الطالب/ة يكذب على أستاذه وهلم جرا. وينتقل الكذب بعد ذلك إلى مكان العمل، حيث ترى الموظف يكذب على مسؤوله المباشر، وترى المسؤول يكذب على موظفيه وعلى من هو أعلى منه في الرتبة.
وينتشر الكذب في المجتمع، سواء كان بالمعاملات أو في العلاقات الاجتماعية، ولا يتحرى الصدق سوى بعض الناس. وما يزيد الطين بلة، انتشار تلك الظاهرة الخطيرة بين بعض أصحاب المهن الحرة، حيث ترى الطبيب يكذب أحياناً على مرضاه، وترى المحامي يكذب أحياناً على موكليه، وترى المهندس يكذب في بعض الحالات على زبائنه، وترى الصيدلي يكذب عند الحاجة على من يرتاد صيدليته من المرضى. إضافة إلى انتشار الكذب بين بعض فئات التجار وقيامهم بالكذب على المستهلكين لتسويق منتجاتهم وبضاعتهم.
وبالمقارنة، أذكر في أثناء مرحلة الدراسات العليا باليونان كيف كان المجتمع اليوناني ينبذ الكاذب ويشير إليه بالبنان على أنه كاذب، ما يجعل منه -أي الكاذب- غير مرغوب الجانب. وبما أن بعض العرب -للأسف- يكذبون، فإن اختلاط زملائهم اليونانيين بهم كان قليلاً إلى حد ما مقارنة مع غيرهم من الطلبة الآخرين. وحقيقة الأمر، إن المجتمع اليوناني كان يُعلي من شأن الصادق في معاملاته وتعاملاته مع الآخرين. وهذا ليس بغريب على مجتمع أسهم عبر التاريخ في البناء الحضاري الإنساني. وفي أوروبا أيضاً، وحسب مشاهدتي، فإن الناس لا يكذبون عموماً، وإن كانوا لا يقولون كل الحقيقة في بعض الأحيان.
وترى كثيراً من العرب الذين يقيمون في الغرب يكذبون ويغيرون الحقائق، خصوصاً عند تقديمهم الوثائق اللازمة للحصول على بطاقة الإقامة، أو في سبيل الحصول على المزايا العديدة التي تقدَّم لطالبي اللجوء منهم. وسمعت في هذا الصدد عن قيام أحد اللاجئين العرب بتطليق زوجته من أجل تمكينها من الحصول على مبلغ إضافي من حكومة الدولة المستضيفة، وقيامه بعد ذلك بإبرام عقد زواج جديد معها دون علم الجهات ذات العلاقة!
وسمعت عن قيام شخص بالطلب من ابنته القاصر الإعلان عن عدم سكنها معه في المسكن ذاته وأنها تسكن مع صديق لها، ما يمكِّنها من الحصول على المعونة التي تقدمها حكومة الدولة المستضيفة للأولاد والبنات في تلك الحالات.
خلاصة القول: إن انتشار ظاهرة الكذب في عالمنا العربي من شأنه أن يعمل على بناء جيل غير مدركٍ أهمية القيم الفضلى في المجتمع، وأهمها الصدق مع الآخرين. ومن شأن الكذب أن يهدم المجتمع، خصوصاً إذا استشرى داخل قطاعات المجتمع كافة، ما يسهم في تقويض عملية التنمية المنشودة على الأصعدة كافة.
لذلك، يقع لزاماً تحري الصدق والالتزام به من أجل بناء المجتمع على أسس سليمة، ما يساهم في قيام القطاعات ذات العلاقة داخل المجتمع بتأدية دورها على الوجه المأمول دون كذب أو تزييف للحقائق، وما يساهم في قيام الموظفين والعاملين -كل حسب مهنته- في تأدية عمله دون تحايل على القوانين والأنظمة سارية المفعول.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.