الصوفية.. كل الطرق تؤدي إلى الله

الطرق إلى الله متنوعة ومتعددة، ثمة أدلة الفلسفة الإلهية الثلاثة المشهورة: دليل الخلق المعروفُ بـ"البرهان الكوني"؛ ودليل النظام المعروفُ بـ"برهان الغاية والقصد"؛ ودليل الاستعلاء المعروفُ بـ"برهان القديس أنسلم".

عربي بوست
تم النشر: 2018/01/21 الساعة 03:02 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2018/01/21 الساعة 03:02 بتوقيت غرينتش

حقيقة الحقائق
في أدبيات الصوفية، الحقيقة الإلهية هي وحدها الجديرة بصفة "الحقيقة"، أنت تسأل عن وجود الإله من عدمه؟ لا قيمة ألبتة لهذا السؤال عند القوم، وليس يعدو عندهم كونه مغالطة في الصياغة ناجمة عن المغالطة في الشعور، هم يتساءلون باستنكار: هل يصح السؤال عن حقيقة تطغى على الشعور، وهي من الوضوح بمكان كأنما العيان؟ إن وجود الله أظهر من أن يحتاج إلى دليل.

بهذا النفَس المفعم بحماسة اليقين إلى ابن عطاء الله السكندري: "كيف يُتصور أن يحجبه شيء وهو الذي أظهر كل شيء؟! كيف يُتصور أن يحجبه شيء وهو الذي ظهر بكل شيء؟! كيف يُتصور أن يحجبه شيء وهو الذي ظهر في كل شيء؟! كيف يُتصور أن يحجبه شيء وهو الذي ظهر لكل شيء؟!"

بل إن وجود الله أثبت لديهم من وجود المخلوقات، وهم بجرأة منقطعة النظير يعكسون المسألة فيقولون إن الله هو الدليل على المخلوقات قبل أن تكون دليلاً عليه، ويبلغ بهم يقينهم درجة يكادون عندها ينفون وجود المحدثات في جانب وجود الإله، وهكذا يكون إثبات وجودها أمراً يستحق العجب في رأي ابن عطاء الله: "يا عجباً! كيف يظهر الوجود في العدم، أم كيف يثبت الحادث مع من له وصف القدم؟!".

قال مولانا جلال الدين الرومي: "قال أحدهم أمام مولانا شمس الدين التبريزي قدس الله سره: قد أثبتُّ وجود الله بدليل قاطع. في الصباح الآتي، قال التبريزي متندراً: الليلة الماضية نزلت الملائكة ودعت لذلك الرجل قائلةً: الحمد لله لقد أثبت وجود ربنا! أطال الله عمره لم يقصر في حق أهل العالم".

ثم علق الرومي، قائلاً: "أيها الرُّجَيل، الله ثابت لا يحتاج إثبات وجوده إلى دليل، إذا فعلت شيئاً، فأثبت نفسَك في مرتبةٍ ومقامٍ أمامه، وإلا فإنه ثابت دون دليل. (وإن من شيء إلا يسبح بحمده)". (سورة الإسراء 77:14). ومن يجادل أن هذا اليقين مريح للنفس والعقل معاً؟!

الطريق إلى الله
في الحقيقة، إن الطرق إلى الله متنوعة ومتعددة، ثمة أدلة الفلسفة الإلهية الثلاثة المشهورة: دليل الخلق المعروفُ بـ"البرهان الكوني"؛ ودليل النظام المعروفُ بـ"برهان الغاية والقصد"؛ ودليل الاستعلاء المعروفُ بـ"برهان القديس أنسلم".

ومن الجدير بالذكر أن عبارات الصوفية لا تخلو من الأدلة العقلية على وجود الله، ولكن العقل في أدبيات الصوفية وإن يكن ينير الدرب إلى الحقيقة، فليس عليه المعوّل، فكيف يعول عليه وأدلته عرضة للنقاش والتفنيد؟ وهو ما لا يتسق بحال عند تناول حقيقة الحقائق.. الألوهية.

وثمة طريق يصح أن يُوصف بالواقعي؛ وهو دليل القانون الأخلاقي المركوز في النفوس كافة، وهو الدليل الذي أقره الفيلسوف الكبير عمانويل كانت، في كتابه "نقد العقل العملي"، بعد أن حطم الأدلة العقلية في كتابه "نقد العقل المجرد"، لعلكم تذكرون مقولته المشهورة "شيئان يملآن قلبي دوماً بالإعجاب المتزايد والخشوع، وهو شعور لا يفارقني كلما أطلْت التفكير: السماء المرصعة بالنجوم فوق رأسي، والقانون الأخلاقي في داخلي. إنني أراهما أمامي مباشرة، وهما يثيران فيّ المرة بعد المرة الوعي بوجودي".

وثمة طريق كشفه الفيلسوف رينيه ديكارت، فبعد أن استعمل الشك كوسيلة للوصول إلى الحقيقة، جعل من ثبوت الفكر وسيلة لإثبات الوجود، فالفكر عنده هو المحك الذي تُمحص عليه سائر الحقائق؛ ومن ثم ناقش فكرة الإله وقارنها بغيرها من الأفكار، وتوصل إلى أنها فكرة صحيحة؛ لأن الإنسان -كما يقول- "وإن يكن لديه أفكار متميزة عن أشياء أخرى كثيرة، لكنه لا يلحظ فيها شيئاً يؤكد له وجود موضوعاتها، في حين أنه يدرك في هذه الفكرة (أي فكرة الإله) أنها لا تتضمن الوجود الممكن فحسب، كما هو الشأن في أفكاره عن الأشياء الأخرى.

بل الوجود الضروري الأبدي على الإطلاق، ومن حيث إن الفكر يرى أنه من الضروري أن يكون متضمناً في الفكرة التي لديه عن المثلث أن زواياه الثلاث مساوية لقائمتين، فهو راسخ الاقتناع بأن للمثلث الزوايا الثلاث المساوية لقائمتين، كذلك متى تصور الوجود الضروري الأبدي متضمناً في فكرته عن الوجود الكامل إطلاقاً، لزم أن يستنتج أن هذا الموجود الكامل بإطلاق موجود حقاً".

هي طرق متنوعة ومتعددة كما ذكرنا آنفاً، لكن الصوفية لهم طريقهم الخاص المتفرد، بنور العقل نصل إلى الله، ليس لهم نزاع في ذلك، ولكن السؤال الكبير هاهنا: كيف لهذا النور أن يبزغ فينا؟

ربما كانت تجربة حجة الإسلام الغزالي الفكرية اختباراً ممتازاً لأفضلية هذه الطريق في الوصول إلى الحقيقة.

أراد الغزالي علماً يقيناً "ينكشف فيه المعلوم انكشافاً ليس معه ريب"، يقول: "ثم فتشت عن علومي، فوجدت نفسي عاطلاً من علم موصوف بهذه الصفة، إلا في الحسيات، والضروريات)، ثم راح يفحصها ليدري مَبلغها من اليقين، يمضي قائلاً: "فانتهى بي طول التشكيك إلى أن لم تسمح نفسي بتسليم الأمان في المحسوسات أيضاً".

وأخذ يتسع فيها ويقول: "من أين الثقة بالحواس؟ وأقواها حاسة البصر وهي تنظر إلى الظل فتراه واقفاً غير متحرك، وتحكم بنفي الحركة، ثم بالتجربة والمشاهدة -بعد ساعة- تعرف أنه متحرك، وأنه لم يتحرك دفعة واحدة بغتة؛ بل بالتدريج ذرة، ذرة، حتى لم يكن له حالة وقوف… فقالت الحواس: بم تأمن أن تكون ثقتك بالعقليات كثقتك بالمحسوسات وقد كنت واثقاً بي؟ فجاء حاكم العقل فكذبني، ولولا حاكم العقل لكنت تستمر على تصديقي، فلعل وراء إدراك العقل حاكماً آخر، إذا تجلى كذب العقل في حكمه، كما تجلى حاكم العقل فكذب الحس في حكمه، وعدم تجلي ذلك الإدراك لا يدل على استحالة".

ثم انتهى إلى مذهب السفسطة، وبقي عليه شهرين بحكم الحال لا بحكم النطق والمقال، ثم "عادت النفس إلى الصحة والاعتدال، ورجعت الضروريات العقلية مقبولة موثوقاً بها على أمن ويقين".

وهنا يثور سؤال في غاية الأهمية: كيف عادت الضروريات العقلية مقبولة لدى الغزالي؟

يجيب قائلاً: "ولم يكن ذلك بنظم دليل وترتيب كلام؛ بل بنور قذفه الله -تعالى- في الصدر، وذلك النور هو مفتاح أكثر المعارف، فمن ظن أن الكشف موقوف على الأدلة المحررة فقد ضيَّق رحمة الله -تعالى- الواسعة".

وفي هذه الإجابة، أمسك الغزالي بطرف الخيط بعد أن فحص واختبر الطرق كافة.
في رأي الغزالي، إلى جوار العقل لا بد من نور يكشف الطريق إلى الله، يمكننا القول إن العقل خارطة الطريق إلى الله، غير أن هذه الخارطة لن تغني شيئاً بغير نور كاشف.

عند هذه النقطة، نعود فنتساءل مرة أخرى: كيف لهذا النور أن يبزغ في أنفسنا؟
وجد الغزالي الإجابة عند الصوفية وحدهم، وفي هذا يقول: "ثم إني لما فرغت من هذه العلوم، أقبلت بهمتي على طريق الصوفية، وعلمت أن طريقتهم إنما تتم بعلم وعمل، وكان حاصل علومهم قطع عقبات النفس، والتنزه عن أخلاقها المذمومة وصفاتها الخبيثة، حتى يتوصل بها إلى تخلية القلب عن غير الله تعالى وتحليته بذكر الله… وحصَّلت ما يمكن أن يُحصَّل من طريقهم بالتعلم والسماع. فظهر لي أن أخص خواصهم، ما لا يمكن الوصول إليه بالتعلم؛ بل بالذوق والحال وتبدل الصفات". وهكذا وصل إلى هذه النتيجة أن "طريقهم أصوب الطرق".

إذن، هذه هي ميزة طريق الصوفية، لا بد فيها من العمل وتطهير النفس وقطع عقباتها حتى تشرق بالنور، وبعد هذا يرى الصوفية أنك لن تجد اثنين يختلفان في وجود الله.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد