ترفع ناظريك إلى السماء فتجدها قد تزيَّنت بأبهى حُلّتها؛ عدد لا يحصى من الأجرام والنجوم، فتدرك أنه لا يضاهيها في الكم والعدد إلا ذنوبك ونعم الله عليك.
تدرك ذلك فيعج صدرك بالخواطر ويمتلأ قلبك بالمشاعر، ومن تلك المشاعر المنتابة الخجل والانبهار.
تخجل لكونك مخلوقاً في منتهى الصغر بملكوت الرب الشاسع وقد تحديته في سلطانه بالعصيان، ولم تستحِ من مراقبته لك ولم تؤدِّ ما عليك من الشكر والامتنان على ما أسبغ عليك من النعم.
وتنبهر لحسن خَلقه وبديع صنعه وجمال تصويره وتمام إنشائه وبهاء تقديره.
ترجع بصرك إلى السماء كَرَّتين، لعلك تجد فتوراً، فينقلب إليك البصر خاسئاً وهو حسير.
ما أجمل التفكُّر في ملكوت الله! وحبذا أن يكون ذلك في غسق الدجى وقد أُسدل على الكون سربال العتمة والهدوء، والجميع نيام قد مضوا إلى عالم البرزخ ولم يبقَ إلا الواحد الذي لا ينام.
ﻭقد ﺃﻣﺮ ربنا ﻭﺣﺚَّ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﺘﻔﻜﺮ ﻓﻲ ﺧﻠﻖ ﺍﻟﺴﻤﻭﺍﺕ ﻭﺍﻷﺭﺽ، ﻓﻘﺎﻝ -ﻋﺰ ﻭﺟﻞ- ﻣﺎﺩﺣﺎً ﻋﺒﺎﺩﻩ: "ﻭَﻳَﺘَﻔَﻜَّﺮُﻭﻥَ ﻓِﻲ ﺧَﻠْﻖِ ﺍﻟﺴَّﻤَﻭَﺍﺕِ ﻭَﺍﻷَﺭْﺽِ ﺭَﺑَّﻨَﺎ ﻣَﺎ ﺧَﻠَﻘْﺖَ ﻫَﺬﺍ ﺑَﺎﻃِﻼً ﺳُﺒْﺤَﺎﻧَﻚَ ﻓَﻘِﻨَﺎ ﻋَﺬَﺍﺏَ ﺍﻟﻨَّﺎﺭِ ".
نعمة التفكر أو عبادة التفكر، هي التي جعلت من إبرهيم النبي خليلاً لله، والتي أخرجت محمد الأمي من غار حراء فأوصلته إلى سدرة المنتهى.
التفكر لذة ونشوة سماوية، ليست في شيء من هذه الأرض، إنه ذلك التجاوب الكوني مع أرواحنا والذي يخاطبنا همساً قائلاً: العظمة لله.
التفكر هو تلك الشرارة التي توقد زيت الإيمان النقي، القابع والكامن داخلنا؛ فيشتعل نوراً ليضيء بصائرنا وطريقنا نحو الرب.
التفكر هو نشوة العابدين، وغاية الحكماء والزاهدين، ومنشود أهل التصوف السالكين.
التفكر لأجله شُيِّدت المعابد والمساجد والأديرة.. التفكر خير ما تقرب العبد به لربه،
هو تمام المعرفة وذروة العلم وعين اليقين، هو سمو الروح ونزوحها لعالم أهل السماء، إنه الرؤية الشاملة والحقيقة التامة.
وقد نقل أثر عن واحد من ﺍﻟﺼﺎﻟﺤﻴﻦ ﻳﻄﻴﻞ ﺍﻟﺠﻠﻮﺱ ﻭﺣﺪﻩ، ﻓﻜﺎﻥ ﻳﻤﺮ ﺑﻪ ﻣﻮﻻﻩ ﻓﻴﻘﻮﻝ: ﻳﺎ ﺳﻴﺪﻱ، ﺇﻧﻚ ﺗﺪﻳﻢ ﺍﻟﺠﻠﻮﺱ ﻭﺣﺪﻙ، ﻓﻠﻮ ﺟﻠﺴﺖ ﻣﻊ ﺍﻟﻨﺎﺱ ﻛﺎﻥ ﺁﻧﺲ ﻟﻚ. ﻓﻴﻘﻮﻝ: ﺇﻥ ﻃﻮﻝ ﺍﻟﻮﺣﺪﺓ ﺃﻓﻬﻢُ ﻟﻠﻔﻜﺮ، ﻭﻃﻮﻝ ﺍﻟﻔﻜﺮ ﺩﻟﻴﻞ ﻋﻠﻰ ﻃﺮﻳﻖ ﺍﻟﺠﻨﺔ.
وﺳﺄﻟﺖْ ﺃﻡ ﺍﻟﺪﺭﺩﺍﺀ: ﻣﺎ ﻛﺎﻥ ﺃﻓﻀﻞ ﻋﺒﺎﺩﺓ ﺃﺑﻲ ﺍﻟﺪﺭﺩﺍﺀ؟ ﻗﺎﻟﺖ: ﺍﻟﺘﻔﻜﺮ ﻭﺍﻻﻋﺘﺒﺎﺭ.
ﻟﻮ ﺗﻔﻜﺮ ﺍﻟﻨﺎﺱ ﻓﻲ ﻋﻈﻤﺔ ﺍﻟﻠﻪ ﻣﺎ ﻋﺼﻮﺍ ﺍﻟﻠﻪ -ﻋﺰ ﻭﺟﻞ- طرفة عين، وما خالفوا نهجه وهلةً، وما فارقوا دربه لحظةً، وما تباطأت خطاهم في السير نحو نعيمه لمحة.
قارئي العزيز، لا أطيل فتسأم نفسُك من خطابي، وتضجر روحك من مقالي، فيذهب جهدي مهب الريح، ولا أبلغ غايتي ومرادي؛ ألا وهي التذكير والإرشاد وإني لست أهلاً لذلك، فإني غير تقي؛ أأمرُ الناس بالتقى كطبيب يداوي الورى وهو عليل؟!
وأكتفي بقول الله تذكيراً ووعظاً: "ﻗُﻞْ ﺇِﻧَّﻤَﺎ ﺃَﻋِﻈُﻜُﻢ ﺑِﻮَﺍﺣِﺪَﺓٍ ﺃَﻥ ﺗَﻘُﻮﻣُﻮﺍ ﻟِﻠَّﻪِ ﻣَﺜْﻨَﻰ ﻭَﻓُﺮَﺍﺩَﻯ ﺛُﻢَّ ﺗَﺘَﻔَﻜَّﺮُﻭﺍ "
تفكروا عباد الله وانيروا بصائركم وقلوبكم..
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.