كما تعرفون، فأنا أعيش في ألمانيا لاجئاً منذ نحو سنتين؛ بسبب الحرب الدائرة في وطن أدمن قتل أولاده، وطن لم ننتمِ إليه إلا من أجل الموت، ومن أجله أصبحنا لاجئين، وطن رفضَنا فقتلنا تحت شعار "نموت نموت ليحيا الوطن" بأولاده المقتولين.
بعد سنتين من محاولة الاندماج وكسب الأصدقاء بعد تعلّم اللغة الألمانية، على الرغم من أني لم استطع أن أتقنها بشكل جيداً جداً، ولكن بشكل يسمح لي بالتواصل مع الألمان؛ لمحاولة فهم هذا المجتمع، وفهم الألمان أنفسهم.
من حسن حظي وجدت الكثير من الأصدقاء، ولكن القدر أرسل إلي صديقاً منفتحاً ومحباً ومهتماً بالثقافات الأخرى. من أكثر من سنة أعرفه وألتقيه بشكل نظامي كل أسبوع، ونتناقش فيما بيننا حول الكثير من الموضوعات في ألمانيا أو سوريا.
في إحدى المرات، قال لي: "في حال سفري إلى سوريا، فاني سآكل الأكل السوري، وأسمع الموسيقى السورية، وأتعلم اللغة العربية. بينما أنا ألتقي وأعرف الكثير من اللاجئين في ألمانيا، فهم ما زالوا مرتبطين بثقافتهم وعاداتهم وأكلهم وموسيقاهم، هذا شيء جميل بالنسبة إليّ؛ لأنني أتعرف على ثقافة جديدة، ولكن لماذا كلّ هذا التمسك بالثقافة لديكم؟!".
فاجأني سؤاله كثيراً وجعلني أفكر؛ لماذا هذا؟ هل نحن مغرَمون كثيراً بثقافتنا؟! ولكن، نحن نعرف عز المعرفة كم المصائب والمشاكل التي تختزلها ثقافتنا والتي تهبنا إياها بشخصيتنا وتفكيرنا. وأغلبيتنا نهاجم ثقافتنا فيما بيننا ونعتبرها أساس المشاكل، ولكن رغم ذلك نعتز بها ونأخذها بتناقضاتها ومشاكلها. هل لأننا لا نحب التغير، أم لأننا نخاف التغير، أم لأننا جبناء؟ أم لأننا مغرورون بثقافتنا؟!
فيما بيننا نعتبر الثقافة عالة علينا وعلى تفكيرنا وحريتنا، ولكن حين نلتقي شخصاً قادماً من ثقافة أخرى نفتخر ونعتز بثقافتنا وتاريخنا الذي لم نقرأه، فإذا قرأناه لم نفهمه. ولكن نفتخر بإنجازات أجداد أجدادنا ونعتبر أنفسنا أسياد العالم لأننا أحفاد الفاتحين والمكتشفين والمخترعين، والعالم أجمع سرق إنجازاتنا وتآمر علينا؛ لأننا الأفضل والأقدس على سطح المعمورة.
مظلومية الحسين مغروسة في تفكيرنا وعقولنا ووجداننا، فكلنا مثل الحسين مظلومون، وكلنا مثل الحسين الكل تآمر علينا، وكلنا مثل الحسين أطهر الناس على الكرة الأرضية.
أم لأن هويتنا قادمة من الثقافة؟ ولكن أي هوية نملك نحن، فكلٌّ تقوقع ضمن حدود بلده، وبالأصح أصبح أسير منطقته وحيِّه وعشيرته، فكلنا أصبحنا أبناء مناطق؛ فابن الشام يقول: أنا ابن الشام أطهر منطقة على سطح الأرض، وابن الرياض يقول: إنا ابن الرياض أطهر مدينة على الأرض، وابن القاهرة يقول: أنا ابن أصلح منطقة على الأرض!
مدينتنا هي هويتنا فيما بيننا، ولكن نفتخر بهوية لم نعد نمتلكها؛ وهي الهوية الإسلامية العربية التي انتزعتها السياسة من قلوبنا وعقولنا؛ لأننا نتحارب ونتعارك ويقاتل بعضنا بعضاً ولم نعد نعرف الصديق من العدو.
الإسلام أصبح إسلاميات والكل يكفر الآخر، ولم نعد نعرف من هو المسلم الصحيح، والعروبة أصبحت شعار الاستبداد الذي يسلب كل شيء منا حتى أنفسنا وأرواحنا.
هوية الفرد لا تأتي فقط من انتماء إلى ثقافة معينة في عصر التواصل الاجتماعي، هوية الفرد هي نتاج التلاقح والتزاوج ما بين الثقافات في عصر العولمة، هوية الفرد أصبحت مرتبطة بهوية الإنسانية وليس فقط بهوية ثقافية معينة في عصر القانون، هويتنا هي إنسانيتنا في زمن الهجرة والحروب والقتل.