في يونيو/حزيران 1999 زارنا الطيب صالح في جامعة بامبرغ بعد أن زار عدة مدن ألمانية أخرى، مثل برلين ولايبزغ ودرسدن وبامبرغ وماربورغ بدعوة من دار الكتاب الألماني في لايبزغ.
وكان الهدف من الزيارة الحديث عن تجربته الإبداعية قراءة أجزاء من روايته "موسم الهجرة إلى الشمال" والنقاش مع الطلبة والحضور.
وقد سعدت آنذاك بأن أكلف بمرافقته لتعريفه بالمدينة وتسهيل الأمور عليه فيها. وكان ينزل في فندق بالقرب من الجامعة يسمى "فيلد روزا"، أي (الوردة البرية). وفي اليوم الأول أراد التعرف على المدينة القديمة؛ لأنها بقيت على حالها منذ العصور الوسطى.
وقال لي آنذاك إنه مفتون في هذه الفترة من حياته بتاريخ العصور الوسطى الأوروبية وفنونها خاصة موسيقى الإنشاد الجريجوري اللاتيني، وسألني أين يمكن أن يجد محلاً لبيع أسطواناتها فاصطحبته إلى أحد محلات الموسيقى فاشترى واحدة.
ثم عدنا ليستريح قليلاً قبل الندوة. وللحقيقة كان مبدعاً في الإلقاء قدر إبداعه في الكتابة.
وبعد الندوة ذهبنا لأحد المطاعم الفخمة، وجلسنا في الداخل بجوار إحدى النوافذ، وما زلت أذكر المنظر الذي كنت أراه من النافذة ليلاً. وكان هو بالطبع مركز الحديث، ولم أحاول مزاحمته أو إزعاجه في شيء.
فقط كنت أعرف أنه أحد العالمين بالمتنبي ومن رواة شعره، فدخلت معه – على سبيل المداعبة – منافسة في إلقاء ما نحفظ من شعر المتنبي وبالطبع هزمني أمام الجميع.
وقد تعجبت الأستاذة فيلاند من حفظنا لشعر المتنبي وسألت الطلبة الألمان إن كان أحدهم يحفظ شيئاً لغوتة أو غيره من الشعراء الألمان فلم يجبها أحد.
وكان الطيب صالح يتجاوب معنا بحب ويوزع اهتمامه على الجميع، وأذكر أنه سأل أصغر الطلبة الألمان، وكان شديد بياض البشرة، شديد الحياء وأي إحراج يظهر مباشرة على وجهه، سأله لماذا يتعلم العربية؟ وكأنه يقصد أنه ما زال صغيراً ويمكنه أن يبحث عن تخصص آخر.
فقال الطالب: إنه شبَّ مع أسرته في إسبانيا، وإنه كان مبهوراً بجمال المعمار والموزاييك هناك، ولم يكن يعرف لماذا تختلف إسبانيا عن بقية أوروبا؟ وعندما كان في السادسة عشرة من عمره، أي قبل سنتين فقط، ذهب مع أمه إلى فاس في المغرب وهناك فقط عرف إجابة سؤاله عن سر تميز إسبانيا، وفرح أنه وجد الإجابة بنفسه وقرر أن يعرف هذه الحضارة ويدرس لغتها".
صراحة بعد هذه الإجابة انكسفت أن أزعجه فيما بعد بأي طريقة.
وفي نهاية الليلة أضحكنا الطيب صالح وهو يحاول ترجمة اسم المستشرقة الألمانية روتراود فيلاند إلى العربية. وأخذ يقلب اسمها الأول في ذهنه ثم زعم أنه يقابل في العربية اسم (رضوى) لقرب الجرس أما المعنى كما قال فلا داعي له؛ لأن الاسم العربي يعجبه وهذا يكفي.
وفي هذه الليلة طلبت منه حواراً للنشر أسأله فيه عما أحب ويتكلم هو كما يحب دون أسئلة، وتواعدنا صباحاً قبل أن يغادر إلى برلين.
وعند انتهاء الحوار قلت لنفسي إنه حوار مهم بالفعل، ولكن لم أدر ماذا أفعل به آنذاك. وكنت أكره الصحافة – عن تجربة – ولذا عزمت على ترك الحوار في الدرج واستخدامه فيما بعد في أي دراسة أنشرها عنه.
وبعد عدة أيام اتصل بي من برلين طبيب سوداني اسمه (حامد فضل الله) وقال لي: إنه سأل الطيب صالح حواراً لمجلة سودانية فأشار عليه أن يتصل بي ليأخذ نسخة من حواري معه؛ لأنه أفضل حوار عمله!
فقلت لنفسي: وربما يقصد في هذه الزيارة فقط! ورغم دهشتي أرسلت لهذا الطبيب ودون مبالاة نسخة من الحوار وفقط طالبته إذا نشره أن يكون باسمي فوعدني بذلك، ولكني لا أدري هل فعل أم لا؟!
وقد اكتفيت آنذاك بإجابات الطيب صالح وحذفت أسئلتي التي لم أعُد أذكرها، مما جعل الأمر يبدو وكأن الحوار مقالة ذاتية للطيب صالح، خاصة أنني سجلت كلماته كما نطق بها بالضبط، ومن له خبرة بالأساليب الكتابية سيلاحظ ذلك عند نشر الحوار في التدوينة القادمة إن شاء الله.
وبعد الحوار جاءت المستشرقة روتراود فيلاند لتشاركه الغذاء، وكانت قد دعتني أيضاً. وبعد الغذاء خرجا وأنا معهما نتمشى. وتحدثنا طويلاً، وتبادلنا نميمة ثقافية مما تشتاقه الأنفس وتلتذ به.
وعندما وصلنا للأحراش خارج المدينة وهممنا بالعودة فوجئت بأن الطيب صالح يسأل الأستاذة فيلاند إن كان لديها شغل له كأن يدرس أحد الكورسات للطلبة ولو لمدة فصل دراسي واحد.
نطق بهذا الطلب بصعوبة وسكت، وتملكتنا الدهشة فسكتنا نحن أيضاً، وسرنا بالقرب من النهر عائدين لوسط المدينة.
وفيما بعد أقنعت نفسي أنه يعاني مللاً ما أو أنه يبحث عن تجربة جديدة.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.