لو ولى الإنسان وجهه ناحية أوروبا لكان قد اكتشف ودون بذل جهد كبير أهمية الهوية في الضمير الأوروبي العريق، ودون بذل أيّ عناء ترى التاريخ الأوروبي حاضراً في مدنه ومبانيه، في تصرفات أهل أوروبا وممارساتهم، في الألوان والأنوار، في لباس السكان وطريقة حديثهم، مما يترك لك انطباعاً واضح المعالم عن الفرنسي، والإيطالي، والإسباني والإنكليزي وغيرهم.
إفريقيا ورغم كل ما يدور فيها وعنها، ستجد عبق الهوية حاضراً بين الناس رغم الفقر والبؤس، لقد استطاع الأفارقة عبر التاريخ والزمن المحافظة على تراثهم الذي يمثل بالأساس هويتهم المريحة، وإن كنا نحن (البيض) لا نفرق بين الأفراد الأفارقة (السود)، إلا أنهم هم بينهم وبين بعضهم البعض يفرقون بين السنغالي والكاميروني وغيرهم.
لو توجهنا ناحية آسيا سنجد الكثير مما نأمل رؤيته، ففي تلك البلاد الصيني مختلف، والياباني مختلف تماماً، الهندي له خصوصيته، والباكستاني له ميزاته، لكن الغريب في الأمر، أنّ الهوية تبقى هي الفارق الأساس الذي يميّز بين كل هؤلاء.
لو أردت اقتطاع إنسان ما من وجوده ما عليك سوى تفجير هويته، ولا يتم ذلك إلاّ بواسطة بعثرة الوجهات على حسب المرجعيات، فالإنسان عندما تختلط عليه المرجعيات سيصاب بالتيه، فلا يعرف بأيّ السبل ينتقي مكانه؛ لهذا فإنّ كثرة الانطلاقات ستضيّع سداد التوجه، وستجعل الهوية مجهولة ضبابية، بلا تأثير ودون دور.
الهوية لا تبنى وإنما تورث، وعند اقتبال العمر ستجد نفسك كإنسان متورطاً في مكان يحتم عليك اختيار إحدى الطرق، فلا يمكن للإنسان استيعاب ما هو فيه إن علق بين آثار الزمن ومداولاته؛ لأن علاقة الوجود بالموجود تحددها أوّل قطرة تصل الإنسان بمن سبقوه إلى هذه الحياة، فتحدد لونه وجنسه ومكانته وعلاقته بالعالم وبنفسه.
هناك أجيال بأكملها تضيع في زحمة الهويات هذه، لكن الأذكى كما علّمنا النموذج الأميركي أن يقفز على كل هذه المرجعيات، ويعمد على صهرها في قالب جديد، يكون بمثابة "هُوية جديدة" تعمل بتأثير رجعي على إنارة درب قديم بوسائل جديدة، في أميركا تجد المواطنين في هذا البلد من أصول متعددة، من الهند وإفريقيا، من أوروبا وآسيا، من كل أنحاء الدنيا، تجمعهم هوية واحدة هي الأميركية، ومنتظمة بشكل عجيب جداً، بحيث يبقى كل فرد حراً في اختيار ديانته وعاداته وتقاليده بشرط احترام القانون الأميركي الذي يضمن حقوق كل الأفراد ويحمي المجتمع الأميركي بمطالبة كل فرد أيضاً بواجباته.
في المقابل، أعتقد أنّ النظام الإنكليزي يبقى الأبرز في قضية حماية الهوية في مواجهة الزمن، وعلى الرغم من أننا نجد الأميركي متلهفاً لكل جديد، سنجد في المقابل النموذج الإنكليزي محارباً لكل جديد أيضاً، ربما الشاب الإنكليزي لا يختلف عن الشاب الأميركي في طريقة حياته، لكن لن تجد وجه شبه واحداً في طباعه وشخصيته، ففي الوقت الذي لعبت فيه الهوية الأميركية دور الاستقطاب الطوعي، لعبت الهوية الإنكليزية دور الطارد القهري، الأميركي يحتفل بالجديد ويعمل على صناعته، بينما الإنكليزي لا يأخذ بالجديد، وإنما يحتفي بعراقة القديم ويعمل على ترميمه حتى يصمد في وجه التغيرات.
ربما ظاهراً اليوم نحن نشهد عالماً متصلاً، وهذا ما وفرته لنا التقنيات التي تتطور كل حين لتربط الإنسان بأهله على مستويات عديدة، لكن وبالرغم من توفر كل هذا الكم من الأجهزة التي ساعدت على إقامة جسور تواصل رهيبة، إلا أنّ الكثير من المناطق عبر العالم لا تزال بعيدة عن ما يظهر "جذباً طوعياً"، وإن ما تخلى معظم سكان العالم عن هوياتهم في سبيل الذوبان في هوية من يقود العالم اليوم، فإن هناك هويات لا تزال تصارع الزمن من قلب هذا العالم الجاذب حفاظاً على إرث الأجداد.
الجديد الذي تحدثنا عنه في هذه الأسطر قد يمسّ كل الأمور على اختلافها، لكنه لن يمسّ أبداً الحضارات الروحية للإنسانية، ومن لا يعرف من أين أتى، لن يتعرف على أي السبل سيتوجه. بعض مناطق العالم تتخلى طوعاً عن هوياتها، تدمر إرثها بأيديها تحت تأثير الانبهار، وتبقى متمسكة بأقانيم الهوية من لغة ودين وعادات وتقاليد، لكنها تبقيها في حالة تزويقية صورية، وهذه أضيع الأمم، حتى إنها أضيع من الأيتام على مائدة اللئام العالمية.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.