ذوات فقد “1”

عن أنثى بل منها عدد، تملك والداً قالباً لا قلباً، وتعرف أباً قد لا تراه إلا ليلاً، في طريقه إلى فراشه، أو في عرس أو مأتم.

عربي بوست
تم النشر: 2018/01/18 الساعة 00:17 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2018/01/18 الساعة 00:17 بتوقيت غرينتش

عن اللائي فقدن آباءهن في المهد، عن الوحيدات اليتيمات، مَن إذا لمحن أباً يداعب ابنته، أو آخر يحمل صغيرته بين يديه، ذرفن الدموع بقهر لا نظير له.. هو الأب يا عالم، هو السند السند، هو العين الثالثة، والعكازة الوفية، رفيق الدرب الطويل، والمظلة الأبدية، الحب الطاهر النقي في قلب كل فتاة، وحامي حمى الروح والجسد.

دعوني أحدثكم إذاً عن طفلة طرية بدون أب، فتاة عشرينية، شابة صبية من دون أب، وامرأة راشدة قد صارت أُماً حينما تزور بيت أمها لا تجد به الأب.. دعوني إذاً أخبركم أن الفقد مأساة عظيمة حينما يتعلق الأمر بالوالد؛ حينما يأتي العيد وهو غائب، ويحل موسم دراسة جديد وهو غير موجود، حينما يطل رمضان وتتعاقب الفصول ومكان الوالد فارغ، حينما تعمّ الأرجاء فرحة زواج أو ولادة أو عمل أو نجاح أو ترقية أو.. ثم لا تكتمل المسرّات حين تذكر غصة الأب العالقة بين القلب والحنجرة.

ذات فقد موجع؛ حينما تحدثها صديقتها عن نزهتها مع أبيها وعن هداياه لها، حينما ترى ابنة الجيران وأبوها يمسك بأمان يدها، عندما تسمع عن مفهوم الأبوة في الشارع والمدرسة والجامعة والسوق، عندما تقرأ عنه في الصحف والمجلات، وعلى شريط التلفاز، في الكتب والروايات، وعلى صفحات مواقع التواصل، حينما تشهد قصة غرام بين فتاة وأبيها الذي بدأ الشيب يغزو رأسه فغدا وسيماً جداً.

وهنا.. غير بعيد نرقب مجتمعات، قد صنعت فقداً أكثر إيلاماً أكثر وأكثر، حين يكون الوالد حياً يُرزق فتضمه قضبان السجن أو ينفى أو يقتل ظلماً، أو تلتهمه غربة وطن آخر، أو أنه وحده في يوم قرر واختار العيش بعيداً عنها، لم يكن مسؤولاً إلا عن زراعتها في رحم أمها، ثم ارتحل وغاب عن ابنة كبرت دونه، ونمت ببؤس كزهرة بدون ساق، وهي لا تزال تجهل عنه كل شيء ربما، إلا اسمه، وبعضاً من أوصافه أحياناً، ثم فر من الواجب ونتائج هذا الفقد دونما عقاب يذكر (فقد مثل هذا، صدقوني، هو أكثر ألماً، أكثر وأكثر..)

ولدي ها هنا فَقْد من نوع ثانٍ، عن أنثى بل منها عدد، تملك والداً قالباً لا قلباً، وتعرف أباً قد لا تراه إلا ليلاً، في طريقه إلى فراشه، أو في عرس أو مأتم.

وهنا ينقسم الآباء المفقودون إلى شطرين؛ الأول رجل مسكين يجري وراء اللقمة كل النهار وبعضاً من الليل، يبحث في أي مكان وزمان عن بعض الدراهم، يسد بها حاجات ابنته المتزايدة، قد ينسيه الفقر في زحمة مشواره المتعب أن لقلبها من عطفه نصيباً، كما هو الحال بالنسبة للإنفاق، قد يتذكر، لكنه لا يستطيع سبيلاً، قطعاً قطعاً.

والثاني موظف، أو تاجر ميسور الحال كثير المال؛ وقته وفير وجهده قليل، لكن هذا الأخير تناسى، أو تغافل على أن لأسرته عليه حقاً، وأن الأبوة والمسؤولية ليست قطعاً نقدية جافة فحسب؛ إنما هي حب وحنان، واهتمام وحوار.. ففضّل صاحبنا قضاء جلّ وقته في المقهى والنادي مع بعض الرفاق المهملين مثله، أو الاستلقاء في غرفته، أو الجلوس في حديقة منزله دون الاكثرات لحقوق البنوة، وغض الطرف عن ذنب الفقد.

ذات فَقْد.. آسفة جداً أنا إذ وضعت البنان فوق جرح لم يلتئم يا عزيزتي بعد، لا تقلقي، فغداً عند الله يلتقي كل فقيد بمن يفتقدونه، رحم الله الأموات من آبائنا، وفك الأسرى ظلماً وعدواناً، ورد المهجرين قسراً وسراً، وهدى إلى سواء السبيل وطريق المودة الأحياء منهم ثم حفظهم، دمت قوية بطلتي.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد