أتذكر تلك الأيام التي كنت أفكر فيها، الهرب من المنزل، وقد خططت جدياً وقتها للهرب، وجهّزت حقائبي، وشحذت أقلامي، وكنت وقتها جاداً في مبتغاي؛ حتى إنني ودّعت أهلي، دون أن يدروا مقاصدي، وتفكرت وانشغلت بوضع مسيرتي، وجمعت المعلومات عن دربي؛ لأصل إلى مقصدي، النهرُ، حيثما نويت أن آخذ مركباً صغيراً وأبحرُ ! وكنت قد علمتُ من قبلها أن مكاناً لتصليح السفن قريبٌ منا، وكانوا يلقبونه (الترسانة)، وكنت قد قررت أيضاً أن آخذ مركباً صغيراً من هناك، من المؤكد أن ألقي مركباً صغيراً في موطن تصليح المراكب الكبيرة.
أخذتُ حقيبتي المملوءة بممتلكاتي، وتأكدت من نوم الجميع، ثم تحركتُ بخُطى هادئة؛ خوفاً من صحو أحدهم، وتجنباً للخطر الذي قد يقعُ على مخططي فيعطله، بالرغم من قلقي فإنني كنت سعيداً؛ فبعد ثوانٍ سأصل إلى الباب وأخرجُ للنهرِ، أنفذُ قراري الذي أخذت، ومخططي الذي وضعت، والذي يعد أول قرارٍ لي وأول مخططاتي.
فلما وصلت للباب، وجدت شيئاً حديدياً -والله أعلم- يعلوني بكثير، كنت أسمعهم يطلقون عليها (أوكرة)، وكانت تلك الأوكرة من أهم اكتشافاتي في الثلاثة أعوام الماضية، لما علمتُ أنها مثل الكلمات السحرية التي تفتح الأبواب والحوائط لتكشف عما وراءها، فوضعت في عقلي أن الأوكرة هي البديل للكلمات السحرية، الكلمات الفاتحة لما اُغلِقَ.
مللتُ من طول النظر إلى هذه الأوكرة الحديدية التي لم تصل إليها يدي، شيئاً لم أحسبه؛ لا أوقنُ إن كنت أنا القصير؟ أم أن من وضع الأوكرة وضعها في موضعٍ مرتفع؟ لم أقفُ كثيراً وقتها عند تساؤلاتي تلك، فقد انشغلتُ بقلقي، وشعوري بالخطر، فلا يوجد شيءٌ قريب لأصعد عليه وأحَدثُ الأوكرة بيدي لتفتح الباب، ولكن شعوري بالخطر والخوف لم يجعلني أفقدُ تركيز عقلي على حل هذه المشكلة، وبدأت أستدعي بعضاً من الخبرات التي راكمتها بعقلي في تلك الأعوام المنصرمة، حتى أتتني فكرة أن أجلب صندوقاً خشبياً كان عندي، ولكنه صغير الحجم لن يُحدِثَ فارقاً يُذكر، فطردتُ الفكرة تلك من عقلي شر طردة.
ما زلتُ أستدعي الخبرات، والأفكار، حتى رأيتُ طاولة خشبية كانت عندنا، فقررت أن آتي بها وأصعد فوقها، ولكن كيف وهي ثقيلةٌ! كان لديَّ ظنٌ أن أي محاولة منّي لجلب الطاولة ستُحدثُ صوتاً عالباً، وسيصحو كل من في المنزل، وفي كل الأحوال قراري لن يُنفذ، ومخططي صار مجرد وهم، محاولتي الأولى للخروج باءت بالفشل، ظللت واقفاً وكل هذا في رأسي دون أن أتحرك أو أصدر صوتاً، حجزتُ الألم في صدري ليختنق ويموت، ولأعود إلى سريري لمحاولة النوم والنسيان أو التفكير فيما حدث.
"فعلت خيراً" حدثتُ نفسي بتلك الكلمات قبل أن أغفو وبعد تفكير وأرقٍ طويل، قلت هاتين الكلمتين ثم رحت في نومٍ عميقٍ ومريحٍ؛ فخلاصة تفكيري ما قبل النوم أنني أحسنت حينما لم آتِ بالطاولة الخشبية؛ فالإتيان بها كان سيسبب الكثير من المتاعب، واستيقاظ أحدهم كان سيثير الكثير من التساؤلات، والشيء الذي انتهيتُ له في الأخير؛ أن تفكري في الشيء أكثر من مرة قبل القيام به ينجيني، فتفكري الجيد نجاني من المتاعب والتساؤلات التي كانت ستمطر عليّ من كل جانب، ومن هنا علمت أن التعقل والتروي -وهي الكلمة التي علمت أنها تساوي التفكر الجيد في الأفعال- هما الأوكرة لأبواب الحياة الآمنة والهادئة، الداعية للتأمل! ولما رأيت تعقلي علمت أنني تغيرت، فلما تعقلتُ، كَبرتُ، لمَ لا؟! والكبارُ دائماً يحدثون بعضهم بكلمات التعقل والهدوء والصبر والتروي، أكثر ما يحدثون بعضهم عن أنفسهم! هذا شيءٌ عادلٌ مثلي كمثلهم، أنا تعقلت في موقفي هذا فصرتُ من اليوم واحداً منهم.
أنظر الآن إلى ذلك اليوم بأنه تجربة صغيرة ولكن وقتها كانت تجربة كبيرة، ما يهم ليس إن كانت تجربة -موقف- كبيرة أو صغيرة، الأهم هو أن التجربة حدثت بالفعل، بكل ما لها حدثت، وبكل ما عليها حدثت، وبكل ما تعلمناه منها، لما أعيد النظر الآن أجد أنني تأثرتُ بفشل مخططي الساذج ذلك، بالإيجاب والسلب، الموقف أثرى عقلي، وساهم في تشكيل وعيي في الأعوام التالية عليه، وأكاد أوقن من أن مخططي هذا لم يكن ذا أهمية في نفسي في ذلك الوقت؛ بل كل ما في الأمر أنني كنت أريدُ التجريب؛ تجريب التقرير، والتخطيط، والتنفيذ، لم أكن أعبأ بإذا ما كنت سأنجحُ أم لا! بل كل ما كان في رأسي هو أن أجرب، وشعرتُ بالسعادة أثناء التجربة، وفشل التجربة والتخطيط، لم يصنعُ من ضلعي الحزن، سوى دقائق، بل خلق الفشل من ضلعي شخصاً يتلذذ! كل ما يفعله التلذذ!
يتلذذ بالتجربة مهما كانت نتائجها، والتجارب كلها مفيدة، فهي ما تشكلُ خبرتنا، ومعرفتنا، وإدراكنا، ووعينا؛ وهما ما يشكلان هويتنا وشخصياتنا، والأفراد يختلفون طبقاً لتجاربهم، فالاختلافُ منبعه التجربة، فتجاربك التي خضت هي مُنشئِك، وصانعك، هذا شيءٌ لا نشعر به ونحن نفعله بل هي في غريزتنا، فالتجربة هي سيدة غرائز الإنسان.
كانت تلك التجربة في وقتٍ بعيدٍ من عمري لا أذكر إن كنت تعديت الخمسة الأوائل أم لا؟ لقد بنيتُ قاعدة نضجي على تلك التجربة السخيفة!
تجربة انتهت بيّ إلى الاتِّئَاد (التروي) والهدوء، وهما صفتان اكتسبتهما من تجربةٍ سخيفة، وبنيت على الصفتين كل نضجي، فقد ساعدتني الاثنتان في النظر للحياة بهدوءٍ، بجانب أن التجربة لا تتوقف إلا بتوقف القلب عن الضخ.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.