مظاهرات تونس .. حذارِ فتحت الرّماد اللّهيب

أحداث يناير 2018 يمكن النظر إليها بطريقتين مختلفتين، فإمّا أن نعتبرها محض صراع انتخابي بين أحزاب الحكم اليمينية والمعارضة، أو النظر إليها باعتبارها مؤشراً حقيقياً على انسداد الأفق الاقتصادي وفشل التمشي الذي تعتمده الدولة

عربي بوست
تم النشر: 2018/01/16 الساعة 02:22 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2018/01/16 الساعة 02:22 بتوقيت غرينتش

يستقبل التونسيون كل عام شهر يناير/كانون الثاني بكثير من الخوف والترقّب والحذر، فهو شهر الاحتجاجات الاجتماعية العاصفة منذ أحداث الخميس الأسود في 1978، عندما حدثت المواجهةُ الدّامية بين اتّحاد الشغل وحكومة الهادي نويرة التي وضعت تونس على سكّة اقتصاد السوق.

كما ارتبط شهر يناير بانتفاضة الخبز في 1984 تلك التي اضطرّ فيها بورقيبة إلى التراجع في قرار رفع الدعم عن السلع الغذائية الأساسية لانتزاع فتيل الأزمة وامتصاص الغضب الشعبي بعد سقوط عدد كبير من الضحايا سرعان ما ابتلعهم النسيان.

أما الحدث التاريخي الأكثر أهمية فهو سقوط نظام بن علي عشية الرابع عشر من يناير 2011 تتويجاً لانتفاضة شاملة انطلقت من سيدي بوزيد يوم 17 ديسمبر/كانون الأول 201. وباستثناء هذا الحدث الذي لم يرتبط بشكل مباشر بقانون المالية العمومية، فإن وقوع أغلب الاحتجاجات الشعبية في شهر يناير مرتبط بتنفيذ قانون جديد للميزانية يحمل معه عادة أعباء مالية تثقل كاهل المواطنين وتهدّد مقدرتهم الشرائية، وهي الحالة النموذجية لأحداث يناير 2018 التي تأتي في سياق مختلف تماما عن أحداث يناير السابقة.

بعد دخول قانون المالية الجديد حيّز التنفيذ وانتقال الزيادات في الضرائب فعلياً من مداولات النواب في البرلمان ومنابر الجدل السياسي الإعلامية إلى الأسواق، اكتشف التونسيون أنّ الإجراءات الضريبية المعلن عنها كانت لها انعكاسات مجحفة على القدرة الشرائية، وخصوصاً لدى الفئات محدودة الدخل من موظفي القطاعين العام والخاص، لكن حكومة يوسف الشاهد تمسّكت في الردّ على منتقدي سياستها الضريبية وحلولها المقترحة للخروج من الأزمة الاقتصادية بموقف موحّد عبّر عنه كلّ الوزراء المتحدثين باسمها على اختلاف انتماءاتهم السياسية، فهم يشكلون ائتلافاً حكومياً بمقتضى وثيقة قرطاج التي أنهى بها الرئيس الباجي قايد السبسي حكومة الحبيب الصيد الحكومة الأولى بعد انتخابات 2014، ويعتبر موقف الحكومة أن التشكّي من غلاء الأسعار ينطوي على مبالغة وتحريض، وأن الصورة التي تروجها وسائل التواصل الاجتماعي تختلف عن حقيقة الواقع، والذريعة في هذا أن المواد الأساسية المدعومة لم تشملها الزيادة، بل ويذهب بعض أعضاء الحكومة إلى القول بأن الزيادات تستهدف الأغنياء متسائلاً عن الأسباب التي تدفع الفقراء إلى الاحتجاج عليها؟ ويشدّد هؤلاء جميعاً على أن المواطن التونسي مدعوّ إلى التضحية، وأن مؤشرات عدة تدلّ على انفراج اقتصادي قريب في الأفق، ثم لا يترددون في اتّهام الجبهة الشعبية، ائتلاف الأحزاب اليسارية والقومية التي تشكل المعارضة، بالوقوف وراء أحداث الشارع رغم أن الجبهة أعلنت بشكل واضح ورسمي مساندتها لهذه التحركات، لكنّ اتهام الحكومة يقوم على خلط واضح ومتعمّد بين الاحتجاج السلمي وأعمال التخريب المصاحبة لتوريط المعارضة في العنف غير المشروع وكسب ورقة سياسية.

أحداث يناير 2018 يمكن النظر إليها بطريقتين مختلفتين، فإمّا أن نعتبرها محض صراع انتخابي بين أحزاب الحكم اليمينية والمعارضة، أو النظر إليها باعتبارها مؤشراً حقيقياً على انسداد الأفق الاقتصادي وفشل التمشي الذي تعتمده الدولة، فلا معنى للتنمية في غياب السّلم الاجتماعي، ومن الواضح أن حكومة يوسف الشاهد لا تريد أن تنظر بالعين الثانية، وتمعن في الهروب إلى الأمام بالاقتصار في مقاربة الوضع على نظرة سياسوية ضيقة تتجاهل عبء الخيارات الاقتصادية الثقيل على الواجهة الاجتماعية.

وتتسلّح هذه النظرة بحملة إعلامية تبدو مدروسة لشيطنة الحراك الاجتماعي واختصاره في أحداث شغب تستهدف مكتسبات المجموعة الوطنية حتى يصبح المواطن ذاته الذي يعاني غلاء الأسعار وشدّة وطأتها على قدرته الشرائية مدافعاً شرساً على خيارات الحكومة، مستنكراً ما تقوم به المعارضة لعرقلة العمل بقانون المالية وإكراهاته المجحفة، وهذا ما يمثل منتهى السريالية في مشهد سياسي ديمقراطي طريّ!

تمعن الحكومة في تجاهل جملة من الحقائق لا سبيل إلى إنكارها، فعدم الزيادة في أسعار الموادّ الأساسية لا يعني أن مقدرة المواطن الشرائية في مأمن، كما أنّ التذرّع بما تمثّله في الإحصاءات نسبة الزيادة الضئيلة في الأداء على القيمة المضافة (1%) لا ينفي التجاوزات التي يمارسها قطاع التجارة بالتفصيل في مختلف المواد تحت طائلة الحرية الاقتصادية وغياب الرقابة وامتناع الدولة عن التسعير، لا تستطيع الحكومة أن تجابه بمثل هذه الجمل المستهلكة ما يصطدم به المواطنون في الشارع من ارتفاع في أسعار جميع المواد، بدءاً من أسعار الشاي والقهوة وصولاً إلى أسعار مواد البناء والمحروقات والأدوية، معاليم التداوي في القطاع الاستشفائي الخاص، ولا شكّ أن حديث أحد وزراء الحكومة عن زيادات موجهة للأغنياء أثارت حفيظة الفقراء يعتبر من النكت السياسية التي تبعث على الاستغراب، وتكشف قصور عدد كبير من المنتسبين إلى طبقة الحكم في السنوات الأخيرة عن فهم متغيّرات الواقع، لا سيما أولئك الوافدين من صفّ المعارضة.

كما يتجاهل يوسف الشاهد أن الدعوة إلى التضحية لن تكون مقنعة إلاّ في إطار قانون تقشّف استثنائي يشمل الجميع ويستهدف ولو بصفة ظرفية المصاريف الفلكية في بعض القطاعات والامتيازات العريضة لبعض موظفي الدولة حتى لا تكون التضحية حكراً على محدودي الدخل، ولا ينتفع بها إلا سواهم.

أحداث يناير 2018 في تونس قد تكون عابرة، سرعان ما تنتهي ويطويها النسيان، دون أن تحدث تغييراً حقيقياً أو دراماتيكياً كما يحلم بعض الراديكاليين، لكنها مؤشّر قويّ على ضرورة القيام بثورة اقتصادية تجعل من الحكومة سنداً حقيقياً للفئات الاجتماعية الضعيفة بدل أن تكون كل خياراتها الاقتصادية على حساب هذه الفئات، في غياب أي بارقة أمل على صعيد التنمية.

إن الثّقة المفرطة في المنوال الاقتصادي الراهن والاقتصار على توجيه دفّة الأحداث نحو الاستقطاب السياسيّ الثنائي بين أحزاب اليمين وأحزاب اليسار ليس إلا إرجاء لانفجار قادم حتماً، وليس من الضروري أن يكون ذلك في يناير، فالثورة لا تستشير أحداً يوم تحين ساعتها، وقد قال الشابي منذ أمد بعيد: حذارِ فتحت الرماد اللهيب.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد