ربيع قرطبة

"ربيع قرطبة" رواية لم تُكتَب ليبحث بعض القراء بين ثناياها عن شخصية الكاتب، بل كُتبت لتعرّفنا على فترة تاريخية منسية وتوجه مجموعة من الرسائل لهذا الجيل التائه !

عربي بوست
تم النشر: 2018/01/15 الساعة 06:36 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2018/01/15 الساعة 06:36 بتوقيت غرينتش

الجيوش، على خطورتها، لا تصنع حضارة، والانتصارات العسكرية واهية أمام تقلبات التاريخ. فكم من انتصار عسكري ينطوي على هزيمة حضارية، وكم من هزيمة عسكرية قد تكون باعثا لهبة حضارية"…

2 يناير، ذكرى السقوط، وانهيار آخر ما تبقى من الحكم الإسلامي في الأندلس… طبيعي أن يشكل هذا التاريخ مناسبة خاصة بالنسبة إلي شخصيا، أنا الموريسكي الأصل (ولو أنني أقولها من باب الإشارة فقط، فما دمّر أبناءَ هذه المنطقة سوى ابتعادهم عما يجمعهم وبحثهم عن تصنيفات أخرى طائفية وعرقية وقومية).

لكنني أستغل هذه المناسبة بالدرجة الأولى لاستعادة الذكرى من باب البحث والتنقيب والاستزادة أكثر حول موضوع الأندلس، ولكنْ من جانب عقلاني محايد، عبر المصادر والكتب التاريخية، بعيدا عن البكائيات المعتادة والتناول العاطفي للملف، ما قد يفيدنا أكثر في فهم حقيقة ما جرى، عوض البكاء المعتاد على اللبن المسكوب.

قدّمتُ سابقا، عبر "مدونات الجزيرة"، قراءات في روايات "ثلاثية غرناطة" لرضوى عاشور، و"رحلة الغرناطي" لربيع جابر، وبما أنني أقرب نوعا ما إلى فن الرواية، فقد اخترت اليوم أن أحدثكم عن رواية اختار صاحبها أن يتناول حقبة تاريخية أندلسية مختلفة، بعيدا عن أجواء التفكك والسقوط و"ابك كالنساء مُلكا"… إلخ، حقبة مفصلية تراوحت بين أوج القوة وبداية ظهور أولى علامات الأفول.. موضوعنا لهذا الأسبوع إذن هو رواية ربيع قرطبة (المركز الثقافي العربي) للأديب والمفكر المغربي حسن أوريد، تلك الرواية التي لا تقرأ مرة واحدة فقط…

جلس الحكَم المستنصر بالله، المولود -حسب معظم المصادر التاريخية- في 302 هجرية الموافق لـ915 ميلادية في قرطبة، وهو ابن عبد الرحمن الناصر، صاحب أقوى وأزهى فترة عاشها الحكم الإسلامي في الأندلس على كرسي الخلافة لخمسة عقود، حتى أنه كان يداعب ابنه قائلا: "لقد طولنا عليك يا أبا العاصي"، وعندما مات ترك دولة قوية مترامية الأطراف مُهابَة الجانب، تسلمها الحكم وعلى عاتقه مهمة الحفاظ عليها وتثبيت أركانها. فهل نجح في ذلك؟

تصدى الحكم المستنصر بالله لتهديدات النورمان أو النورمانديين (المعروفين أيضا باسم الفايكنغ، وإن كانت هذه التسمية مرتبطة في الأصل بالشعوب النورمانية المستقرة في السواحل الإسكندنافية) وهم الذين ورد ذكرهم في الرواية بوصف "المجوس". كما واجه تهديدات الفاطميين في المغرب الأقصى، المتحالفين مع زيري الصنهاجي، وتعامل مع نقض ابن كنون لعهده معه وأجبره على الدخول مرة أخرى في طاعته، وأفشل أيضا أطماع الممالك المسيحية، التي فضّلت التربص والتعامل معه بمنطق تبادل الوفود والزيارات.

أكمل الحكم كذلك بناء مدينة الزهراء التي بدأها والده، وأمر بإصلاح قنطرة قرطبة التي أصابها الوهن، وطور أسطول الأندلس البحري. وشهد عهده أيضًا نهضة في التعليم العام جعلت أبناء عوام الشعب يجيدون القراءة والكتابة في الوقت الذي كان علية القوم في أوروبا لا يستطيعون ذلك. كما غدا المسجد الجامع جامعة بمفهوم العصر الحديث تدرّس في حلقاته مختلف العلوم. وقد أغدق الحكم عطاياه على العلماء في عصره، سواء كانوا من المسلمين أم من غيرهم. كما لا ننسى سعة اطلاعه العلمي، واهتمامه بالشعر ورفقه الكبير بالرعية.

يأخذنا الكاتب ليدخلنا إلى قلب القصر الأموي، يعرّفنا على الكيفية التي تدار بها الدولة الأموية وآلية عمل نظم الحكم فيها، وتأثير مزاجية الحاكم وهواجسه الشخصية في اتخاذه للقرارات المصيرية
لخص المؤرخ الإسباني رامون مننديث بيدال فترة حكم بقوله: "لقد وصلت الخلافة الأندلسية في ذلك العصر إلى أوج روعتها وبسطت سيادتها السلمية على سائر إسبانيا، وكفلت بذلك السكينة العامة".

ولكنْ يبدو أن نهاية فترة حكم المستنصر بالله لم تكن بروعة بدايتها، مع تسلل الضعف والوهن إلى الحكَم، واستسلامه للصراعات الخفية بين أركان حاشيته.. فهل كانت هذه النهاية والظروف المحيطة بها إحدى الأسباب التي دفعت الكاتب حسن أوريد إلى تأليف رواية "ربيع قرطبة"؟

إذن، وبالعودة إلى الرواية، يمكن القول إن العمل يعتمد في بنائه بالدرجة الأولى على تقنية الاسترجاع، فالأحداث هنا تنطلق من النهاية، الحكم يعيش أيامه الأخيرة، ويروي لعدد من تابعيه المخلصين، كجوذر، أحد كبار خصيان القصر، الفتى البربري زيري والطبيب شرحبيل، سيرة حياته، سيرة تبدأ منذ ولادة الحكم، مرورا بمرافقته لوالده الناصر، ومن ثم توليه مقاليد الحكم بعده، وصولا إلى مرضه وتمكن الحاجب بن أبي عامر من السيطرة على مفاصل الدولة.

يأخذ الكاتب بأيدينا ليدخلنا إلى قلب القصر الأموي، يعرّفنا على الكيفية التي تدار بها الدولة الأموية وآلية عمل نظم الحكم فيها، وتأثير مزاجية الحاكم وهواجسه الشخصية في اتخاذه القرارات المصيريةَ. على سرير موته يشرّح الحكم نفسه أمام المقربين، ويكشف ذلك الجانب المخفي من شخصية الخليفة، فإلى جانب الحزم والقوة والثقة المطلقة، هناك جانب آخر مليء بالضعف والقلق والخوف، لا يمكن إلا أن يثبت بشرية ونقصان صاحبه، وهو جانبٌ بدأ بالتكوّن عند الحكم منذ الطفولة مع الوفاة المفاجئة لشقيقته الصغرى زينب، ليتعمّق عبر الزمن مع خسارته حبّه الأوّل والوحيدَ هند، وابتعاد صديقه باشكوال عنه وانقطاع الصلات بينهما.

هي رواية مكتوبة بلغةٍ جميلة، مناسبة تماما للظرفية التاريخية المتناوَلة في العمل، وهذا ما يحسب للكاتب الذي يولي عناية شديدة لهذه الجزئية المهمة في بناء أي صرح روائي، لغة كانت شاعرية في بعض المواضع، وهو ما يتوافق مع ما ذكرته المصادر التاريخية عن ولع الحكم بالشعر، لكنْ بأسلوبٍ سلس ينحو نحو الإمتاع الذي يدفع القارئ (أي قارئ) إلى مواصلة القراءة حتى النهاية، وقد يساعد حجم الرواية (160 صفحة) على قراءتها في جلسة واحدة فقط، وهذا هو المطلوب للنهوض بالمستوى العام للأدب المغربي، وما نادينا به أكثر من مرة، بعدما وقعت الرواية المغربية لسنوات طويلة في فخ التعقيد والإملال والخلط المستمر بين التداعي والثرثرة، بين التجريب والتخريب.

ورغم ذلك، لا يمكن بأي حال من الأحوال إغفال عدد من الرسائل التي حاول الكاتب تمريرها بين سطور العمل، وهذا طبيعي، ما دمنا نتحدث هنا عن رواية تاريخية صرفة، توظف الماضي خدمة للحاضر وربما المستقبل أيضا.. فشخصية الحكم في رواية "ربيع قرطبة" تدعو إلى نبذ الخلافات، سواء بين أتباع الديانات أو القوميات والعرقيات، وتحثّ على العمل على المصير المشترك للإنسانية جمعاء، مع التحذير من الحصر الضيق للسلطات في يد واحدة، والمآلات الخطيرة التي قد يسببها توظيف الدين أو العرق أو الطائفة في الصراعات السياسية التي يدفع الأبرياء ثمنها في النهاية.

غالبا في هذه النوعية من الروايات، نجد أن شريحة معينة من القراء تحاول إسقاط بعض شخصيات العمل على الكاتب نفسه. وبما أنني روائي أيضا (وإن كنت بطبيعة الحال في مستهل مساري الأدبي) فقد حوصرت بهذه النوعية من الأسئلة أكثر من مرة.

من الصعب بما كان على الكاتب، أي كاتب، أن يفصل بين ذاته وبين كتاباته، ولكنّ الاختلاف بين كاتب وآخر يكمن في قدرته على اللعب على حبلَي التلميح والتصريح، والمزج المتقن بين الواقع والخيال، وهي لَعمري أجمل متعة يقدمها فن الرواية.

وفي هذا الصدد، يقول أورهان باموق، الروائي التركي الحاصل على جائزة نوبل للأدب في 2006:

"الإبداع الروائي يستمد قوته من عدم وجود اتفاق مثالي بين الكاتب والقارئ حول فهم الرواية. الكتاب والقراء كلاهما يعرفان ومتفقان على حقيقة أن الروايات ليست خيالية بالكامل، كما أنها ليست حقيقية بالكامل"…

"ربيع قرطبة" رواية لم تُكتَب ليبحث بعض القراء بين ثناياها عن شخصية الكاتب، بل كُتبت لتعرّفنا على فترة تاريخية منسية وتوجه مجموعة من الرسائل لهذا الجيل التائه بين واقعه السيء ومستقبله الذي ينذر (مع الأسف) بالأسوأ، فهي رواية لم تُكتب لتقرأ مرة واحدة فقط!

هذه التدوينة منشورة على موقع مدونات الجزيرة

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد