الرجل العظيم الذي جئتُ من صلبه الذي ما بخل يوماً بوقته لخدمة الناس وتقديم العون لهم، ما زلْتُ أذكر إلى هذه اللحظة التي أكتب بها هذه الكلمات، يوم كنّا نصلي العشاء وبعدها نجري جولة ميدانية على فقراء المناطق المجاورة لمنطقة النبي شيت، يوزع عليهم ما يجود به بعض المحسنين لضعيفي الحال، العمل الذي لم يتركْه طيلة عمره ما بخل بمال على أحد.
كنّا نقضي الساعات معاً لتوزيع هذه الأموال، يوم كان ضعيف الحال تقدم له المعونة بعيداً عن أضواء الكاميرات، بعد أن أصبح الفقير مجرد صورة تلتقط ليكون وسيلة إعلامية للتسويق الإعلامي، ولا يخلو أي زمن من وجود مخلصين لا شك في ذلك، كان هذا دأبه وما يستطيع أن يقدمه للآخرين.
يوماً بعد يوم هذه الشخصية تكبر يتفانى ليلاً ونهاراً لخدمتنا وتقديم الحاجات لنا أنا وسبعة إخوة لي، علّمنا العطاء في كل شيء.
ما زلْتُ أذكر يوم أن بدأت أفهم اللغة العربية وأدرك قواعدها منذ البداية كان يقول لي: من يحتاج شيئاً في هذا المجال لا تبخل بتعليمه، كثيراً ما كنت أتكاسل فيحفزني فأكون أكثر عطاء وتقديماً للآخرين.
لم يكنْ عطاؤه مالاً كان يتجسد في كثير من الأحيان بكلمة طيبة أو نصيحة يقدمها للآخرين، يبصرهم الطريق، ويمهد لهم درب الحياة الصحيحة.
ساعد الكثير والكثير في مجالات متعددة في الحياة، ولم يكرس حياته لنفسه، لا يوجد في قاموسه الأنانية إطلاقاً.
اليوم بعد أن اشتد عودي وبلغت من النّضج مبلغه يرجع الفضل أولاً وآخراً إليه، لم يلزمني بمنهجٍ معين أو مرجعيةٍ يراها مناسبة، كان يقدم مجرد اقتراحات لي أن أقرأ الكتب، لكن رغم ذلك كنت مختلفاً تماماً عن الأشياء التي يقرأها أو يتابعها، وما زلْتُ أذكر أنه كان يقول لي: لو تقرأ في المراجع المعتمدة عند العلماء بدل أن تقرأ كتب علي الطنطاوي، كنت أقول له: كتاب صغير يضيف لشخصيتي أفضل من كتاب كبير لا أستطيع أن أخرج منه بلا فائدة ولا إضافة.
كان في حياته دروس وعبر بيتنا لا يمضِ عليه أسبوع من دون ضيوف، كان يأتي بالضيف ويقدم له ما كان مصنوعاً في ذلك اليوم دون تكلّف ولا مبالغة، أجمل الأيام كانت عندي اليوم الذي يأتي عندنا ضيوف كان كل شيء يبدو مختلفاً، ترتسم على ملامحه ووجهه الفرح والابتسامة، فضلاً عن الضيوف، المشاكل الخاصة، الناس التي كان يساهم في حلها، كان وما زال له دور اجتماعي لا ينكر في منطقتنا، أو على مستوى قبيلتنا التي ننتمي إليها.
رغم أنني لا أحب علم الأنساب إطلاقاً ولا أهوى القراءة فيه، فإن أبي على خلاف من ذلك له اطلاع واسع في علم الأنساب، فضلاً عن معرفته بالرجال، خبر الناس وأحوالهم من خلال عمله كإمام جامع لمدة عشرين عاماً، فضلاً عن مزاولته التجارة منذ أن كان شاباً فهو ملِمّ بأحوال الناس، وهذا جعل بيننا خلافاً في الحكم على الشخصيات، إلا أنني استفدْتُ كثيراً منه في هذا المجال، وبدأت أميز بين الناس من خلال تجربتي وتجربته.
الحوار والنقاش معه لا يملّ، له أسلوبه الرائع في ذلك وله وسائله في الإقناع اكتسبها من خلال تجاربه الكثيرة ودراسته وقدْ تأثرْتُ بطريقته بالإقناع، إلا أن بيننا اختلافاً في الأفكار، وهذا يقع بحكم العمر واختلاف البيئات والأحداث.
هذه رسائلي إلى أبي، أو أستطيع أن أقول هذه خلاصة مختصرة جداً عن سيرته وبعض الأشياء التي استفدتها وتعلمتها منه، مع مصاحبتي له في العمل وفي المنزل والذهاب والإياب.
وختاماً:-
صحيحٌ يا أبي أنّي
بعيدٌ عنكْ
ولكنّي بأشواقي
قريبٌ منكْ
فأفرحُ عندما تفرحْ
وأغضبُ عندما تغضبْ
ويُسعدني إذا ترتاحُ
أن أتعبْ
ويُسعدُني إذا يُرضيكَ
أن أُصلبْ!
وأدعو دائماً ربّي
بأن يُعطيكَ من عُمُري
سنينَ لا فناءَ لها
ولا تُحسَبْ
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.