بين الحقيقة والشك

أنا لست العدميَّة ولست التائهة، ولست السائلة عما فات.. ولست تلك التي يبحث عن المفاد من الحياة.. أنا تلك التي وُجدت على بقعة أرضية، بحثت وراءها وجدت أماً بشعر قد شاب وأمامها رضيعة بشعر قد بدأ ينبت، فأيقنت أن دورة الحياة تنطلق عند الرحم.

عربي بوست
تم النشر: 2018/01/13 الساعة 02:52 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2018/01/13 الساعة 02:52 بتوقيت غرينتش

أنا لست العدميَّة ولست التائهة، ولست السائلة عما فات.. ولست تلك التي يبحث عن المفاد من الحياة.. أنا تلك التي وُجدت على بقعة أرضية، بحثت وراءها وجدت أماً بشعر قد شاب وأمامها رضيعة بشعر قد بدأ ينبت، فأيقنت أن دورة الحياة تنطلق عند الرحم.
أنا تلك التي إن تاهت بين اختيارين توكلت على خالق العالمين، وأوجدت طريق الصواب بدون عناء.

علمت أن حياتي بضع سنوات كمن مضى قبلي، أخذت منها العبرة على أن أمشي فيها بمهل، قبل أن أودعها، إن قدمت قدمت بحب وشغف، وإن امتنعت فلي كل الحق في ذلك.

في تجربتي الدنيوية اخترت لونين للتعبير: أبيض وأسود، ولا وجود للرمادي؛ لأنه حقيقة هو مزيج بين اللونين فقط، ووجوده منعدم إن غاب أصله.
اخترت أن أستقبل سهام الناس مهما كانت موجعة، وأن أحافظ على بسمتي لربما تكون أكثر فتكاً لهم، حياة هي فقط مهلة والقادم ما زال مبهماً وغامضاً، فسّره العدميون بعدم وجوده، وأن البداية هنا والنهاية أيضاً هنا، وأن من لم يعش تجاربه كلها على هذا العالم فقد ينتهي يوماً وحسرتاه عما امتنع عن القيام به.

وفسَّره الروحانيون بقنطرة صغيرة بين ما قبل وبعد، وما قبل عشناه في بطون أمهاتنا.. اخترنا خلاله تفاصيل حياتنا في غضون تسعة أشهر، وما بعد هو أطول وأبقى هو الخلود الذي لا يفنى كيف ومتى وإلى أين؟

علمها مبهم لكن النهاية ليست هنا، وأما ما نحن بداخله الآن ليس أكثر من مجرد معبر مليء بالأشواك والعقبات، وفي كل مرور، لنا حرية الاختيار بين بطاقتين للاستعمال منها -الموجبة- نظيفة صعبة الاستخدام، لكن نتيجتها تزهر ولو بعد حين، ومنها -السالبة- سهلة الاستخدام، نؤدي بها العديد لبلوغ الطريق وسرعان ما تدور الأرض في مدارها؛ لترجع لنا ثمار ما زرعناه، ولن نحصد خيراً من شر.

تختلف الرؤية من واحد إلى الآخر، لكن الأصل في الموضوع هو أن نكتشف ذواتنا انطلاقاً مما نحن عليه، ولاحاجة للعبث فيما هو خارج عن ذواتنا، فبمجرد ما نطرح سؤالاً عن سبب وجودنا يأخذنا العقل إلى البحث في العلم والديانات وأصلها، وكيف وأين ومتى؟ لنجد أنفسنا تائهين بين ما وقع في وقت لم نكن فيه، وهذا ما يسبب لنا الاكتئاب؛ لأننا ببساطة نتعلق بوجودنا، محاولين فهم دورنا وما سنقدمه، فيتخلّلنا الخوف من غياب الجواب.
بحثنا الذي ينطلق من نقطة خاطئة يجردنا من حقيقتنا؛ ليزج بنا داخل خانة العدمية؛ لأنه لا دليل يلمس ويرى عما يوجد في العالم الخارجي، وهنا العودة إلى الأصل.

دورنا والجدوى من وجودنا جوابها يمكث داخلنا، فنحن لسنا مجرد عقل قادر على طرح السؤال، نحن مزيج من الروح أيضا، تلك التي تحس وتتنبأ وتكتشف بالحدس فقط، وهي التي يصعب قراءتها، هي جوابنا لما نحن عليه، لم نأتِ عشوائياً ولم نأتِ لنموت أيضاً، جئنا لنترك بصمتنا ونزرع منا كما حصدنا من زرع الذي قبلنا؛ حتى تكتمل دورة الحياة، ولم تنفخ فينا الروح فجأة بدون هدف، فتلك التي تحذرنا من السواد بدون أن نسألها، وتؤنبّنا في كل خطوة نخطوها داخل الوحل ليست بمجرد هباء.

باختصار لو امتلكنا القدرة على الحفاظ على مكوناتنا كآدميين بين عقل وروح لما سألنا كثيراً ولما غصنا في حقل الشك؛ لأننا ببساطة لسنا مؤهلين كمخلوقات للإجابة عن أي تساؤل يطرحه عقلنا، لكننا قادرون على خلق السلام داخلنا بالعودة إلى أرواحنا، علينا العمل بحكمة، وأن نراقب أنفسنا؛ حتى نكون صورة عنا، وقبل أن نستنزف قوانا العقلية في محاولة تفسير ما يدور على المستوى الخارجي، علينا الغوص داخلنا قبل كل شيء، فمعنى الحياة يكتمل عندما نصل إلى اكتشاف نسختنا الكاملة.

وقد لا نحتاج إلى أي غريب عن أنفسنا لو أننا تعرفنا على ذلك الجانب الذي يسكننا والذي طالما تجاهلنا وجوده، العدمية التي يسقط فيها العديد هي مجرد حفرة تستقبل كل مار لم يتصالح مع ذاته ولم يقدم لنفسه حقها مثلما قدمها في طرح التساؤلات.

لا تكن ممن ينتظر يد المساعدة دائماً، لكن كن ذلك الذي يمدها بكل ثقة، ولا تكن ممن ينتظر التحية بل باشر في إلقائها، ولا تكن الاختيار الثاني في حياة الناس فأنت أكبر من أن تكون في محطة الانتظار.

عندما تصالح نفسك جيداً ستجد أنك تباشر دائماً؛ لتخطو الخطوة الأولى، وذلك الذي تعود على الشك، فسيُشك حتى في ابتسامتك البريئة؛ لأنه لم يعرف نفسه حق المعرفة فلا تنتظر منه أن يعرفك.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد