في الوقت الذي يواصل فيه مستوى الإنفاق على الرعاية الصحية في مختلف الدول صعوده المطرد، نجد أن هذا الانفلات في الكلفة يفوق كثيراً النمو في الدخل الوطني ودخل الأسرة، ففي أوروبا، على سبيل المثال، بلغت الزيادة في هذه التكاليف ضعفَي معدل النمو الاقتصادي؛ حيث استحوذت على حوالي 10% من إجمالي الناتج المحلي، أما في الولايات المتحدة، فقد واصل الإنفاق على الصحة صعوده؛ ليصل إلى 18% من إجمالي الناتج المحلي.
وتُعلل هذه الزيادة بعدة عوامل، منها الزيادة في معدل الأعمار، وما رافقه من زيادة في عبء الأمراض غير السارية، والتطور المستمر في التقنيات الطبية.
لكن اللافت أن هذا الارتفاع في تكاليف الرعاية الصحية لم يقابله تحسن مماثل في جودتها؛ إذ لا يزال هناك خلل واضح في النتائج، من حيث تباين تناسب هذه النتائج مع حجم الإنفاق، أو التباين في هذه النتائج حتى ضمن البلد الواحد.
تكمن المعضلة التي تواجه صنّاع السياسات والمخططين الاستراتيجيين في وجود قوى بأهداف مختلفة، وربما متضادة، فمن جهة، هناك مواطنون يتوقعون رعاية صحية عالية الجودة، تقابلهم حكومات تسعى إلى كبح الانفلات في ميزانيات الرعاية الصحية، ما يضعها في مأزق المواءمة بين السعي لتحسين الرعاية الصحية وخفض كلفتها.
ولذلك، قام معهد تحسين الرعاية الصحية بوضع هدف ثلاثي لتحقيق المعادلة الصعبة آنفة الذكر، بحيث يتم العمل على: تحسين النتائج الصحية لفئات السكان، وتعزيز جودة الرعاية وتجربة المريض، وتخفيض حصة الفرد من تكلفة الرعاية.
لقد انصبت معظم الجهود المبذولة حتى الآن على تحسين كفاءة النظم المتبعة حالياً، وضمن الأطر الموجودة، من مثل تخفيض أجور الرعاية، وضبط الأرباح، وتقييد الاستخدام، إلا أن هذه الجهود لم تؤد الغرض الذي وجدت من أجله، فتكاليف الرعاية الصحية واصلت ارتفاعها، والفجوة بين جودة الخدمة المقدمة وبين النتائج واصلت اتساعها.
من هنا يتبين أن الحلول الجزئية لهذه المشاكل المزمنة والمركبة قد فشلت ويتوجب على صانعي القرار البحث عن حلول مبتكرة خارج الصندوق التقليدي، بإحداث تغيير أعمق وأوسع نطاقاً.
من الملاحظ أن هيكلية تقديم الرعاية الصحية في معظم البلدان تقوم على مبدأ العرض؛ إذ يقوم مزودو الخدمة بعرض جزء من الرعاية التي يحتاجها المريض، ويقبضون ثمن هذه الخدمة، بدلاً من الاهتمام بالنتائج النهائية الشاملة وبتجربة المريض، ما أدى الى تحسن جزئي في مستوى الرعاية على مستوى العنصر لا الكل.
لذلك، كان لزاماً البحث عن أسلوب جديد للرعاية، يضمن الانتقال من رعاية يحركها العرض إلى أخرى يحركها الطلب أو المستهلك وليس مقدم الخدمة، ويكون فيها مقدمو الرعاية مسؤولين عن تقديم خدمة تهم المرضى والسكان بشكل عام، والانتقال من التركيز على تقديم المدخلات والنشاطات، إلى السعي لتحقيق النتائج للمواطنين، وهو ما يعرف بـ"الرعاية المسؤولة".
سيسمح هذا التحول في شكل ومضمون الرعاية، بالانتقال من نظام مجزّأ حسب النشاط، إلى نظام أشمل تحركه النتائج كما سيمكّن المواطنين من امتلاك صوت أقوى في تحديد أولوياتهم، وسيعاد تعريف مهمة الرعاية الصحية جوهرياً؛ فلا تعود مقتصرة على معالجة المرضى، بل أيضاً على زيادة عافية السكان إجمالاً، وهو ما يتماشى مع تعريف منظمة الصحة العالمية لمفهوم الصحة.
ولتحقيق هذه النقلة النوعية في بنية الرعاية الصحية، نحن بحاجة إلى توفير عدة عناصر، تبدأ باختيار شريحة معينة من السكان يكون مقدمو الرعاية مسؤولين عنها مسؤولية مشتركة، وبالتنسيق فيما بينهم.
ومن ثَم، يتم تحديد النتائج الصحية التي تهم هذه الفئة، التي تصبو لتحقيقها، لينبثق عن هذه الأهداف وحدات قياس محددة بدقة، لتحديد مدى الإنجاز في تطبيق هذه الأهداف، وبناء عليها تتم مكافأة مقدمي الخدمة.
إن النتائج الأولية المستقاة من المناطق التي بدأت بتطبيق هذا النوع من الرعاية تبدو واعدة من حيث التحسن الواضح في جودة الخدمة، لكن الجانب المادي من الفكرة لا يزال بحاجة إلى مزيد من الدراسة والمتابعة؛ إذ يتطلب هذا التغيير كلفة مبدئية ليست بالقليلة، قبل أن نبدأ بتلمّس فائدة اقتصادية على المديَين المتوسط والبعيد.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.