كافكا وميلينا.. حكاية حب مستحيل

لأننا أمام مبدع مختلف، يغرد وحيدا خارج السرب، كانت قصة حبه لميلينا أيضا غريبة وغير متوقعة، فقد بدأت عن بعد، ولم يحظ العاشقان سوى بلقاء أول مقتضب وشبه صامت، هناك في فيينا، ولقاء آخر فيما بعد، عندما ترجمت ميلينا إحدى روايات كافكا، وكان عمره آنذاك ستة وثلاثين عاما.

عربي بوست
تم النشر: 2018/01/09 الساعة 03:06 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2018/01/09 الساعة 03:06 بتوقيت غرينتش

"ميلينا، أنت بالنسبة لي لست امرأة، أنت فتاة، فتاة لم أر مثلها أبدا من قبل، لست أظن لهذا أنني سأجرؤ على أن أقدم لك يدي أيتها الفتاة، تلك اليد الملوثة، والمعروقة، المهتزة، المترددة، التي تتناوبها السخونة والبرودة في كتابة الرسائل.."

لم يكن كافكا مشهورا، أصيب بالمرض في نهاية حياته القصيرة، أوصى صديقه ماكس برود بأن يحرق كافة مخطوطاته غير المنشورة ومنها رواياته الثلاث، وذلك لأنها أيضاً غير مكتملة ولا تستحق النشر في نظره.

هو النقد الذاتي في أقسى تجلياته
ولأن الصداقة الحقيقية لا تعني دائما أن ينفذ الصديق ما طلبه منه صديقه بالحرف، فقد خالف برود أمنية الصديق، وقام بنشر كل ما تركه الراحل، ليتعرف العالم بأسره على أيقونة أدبية يستحيل إغفالها أو تجاوزها بمجرد الحديث عن تيار ما بعد الحداثة في الأدب العالمي.

فرانز كافكا

هو تشيكي يهودي من أصول ألمانية، ولد في براغ سنة 1883، لأب متسلط وأم خجولة، أب ترك أثره العميق في نفسية وأدب فرانز فيما بعد، أب مستبد لا يتقن سوى لغة الأرقام والأرباح المادية، بما يتعارض تماما مع الروح الرقيقة الشفافة لفرانز التواق للعزلة والهدوء والتأمل بعيدا عن صخب الحياة.

بعد دراسة ابتدائية عادية إلى حد ما، وتخرجه سنة 1901، التحق فرانز بجامعة شارلز فرديناند في براغ، وبدأ في دراسة الكيمياء، لكنه سرعان ما ترك هذا التخصص بعد أسبوعين فقط، محولا دراسته إلى القانون، الذي لم يكن يريحه، واعتبره مجرد وسيلة للحصول على وظيفة ترضي رغبة والده.

إلى جانب دراسته الإلزامية، حضر فرانز حصصا في تاريخ الفن والدراسات الألمانية، وانضم إلى ناد طلابي أدبي، ولم يمض عام على التحاقه بالجامعة حتى التقى بصديقه الصدوق ماكس برود.

مع توالي الأيام، اتضح لماكس أنه أمام شخص متزن فكريا، محب للأدب، عاشق مجنون للقراءة، وهو ما عوض به خجله الشديد وقلة كلامه وما اتسمت به حياته من سوداوية ومعاناة، ليعلن لصديقه فيما بعد أنه يعتبر فيودور دوستويفسكي، غوستاف فلوبير، فرانز جريلبارتسر وهاينرش فون كلايست أخوته بالدم.

عمل كافكا في شركة لتأمين حوادث العمل، فسهلت له وظيفته تلك مهمة الاقتراب من مختلف طبقات الشعب، بالإضافة طبعا إلى الطبقة المثقفة، فكان دائم الحضور لملتقيات الديموقراطيين والاشتراكيين وحتى الفوضويين، ومكنه الاحتكاك بصالون أدبي شهير من فهم النظرية النسبية لأينشتاين، ونظرية الكم لماكس بلانك، والتحليل النفسي لفرويد، ونظرية الأعداد اللانهائية لكانتور، وفلسفات هيغل وكانط ونيتشه، وبحكم طبيعته الهادئة، انعكس ذلك حتى على أدق تفاصيل حياته، فعرف عنه اتباع نظام غذائي نباتي، وحبه للسباحة والتجديف والتأمل.

مكنته الوظيفة أيضا من استغلال وقت فراغه في الكتابة، التي اعتبرها جوهر وهدف حياته الأسمى، لكن يبدو أنه كان يجد صعوبة في إتمام أموره، لذلك بقيت معظم مؤلفاته بلا نهاية، وحتى أعماله القليلة المكتملة والمنشورة في حياته لم تحظ بشهرة مناسبة، ولم يلتفت لها القراء بشكل كبير!

عاطفيا، كان واضحا أن طبيعة كافكا المعقدة لم تكن تسمح له بالارتباط، فبعد زياراته لباريس وبرلين وشمال إيطاليا وزيوريخ وفيينا والبندقية وغيرها، بين عامي 1910 و1912، التقى بفليس باور، التي عقد خطوبته عليها سنة 1914، ثم فسخ الخطوبة بعد شهر واحد فقط، وأعاد عقدها سنة 1917، ليتضح له بعد شهرين أنه مصاب بداء السل الرئوي، ليفسخ الخطوبة مرة ثانية، وتعرف فيما بعد على يولي فوريتسيك وخطبها، ثم ألغى موعد الزفاف المتفق وفسخ الخطوبة سنة 1920، ثم تعرف أخيرا على الشابة جورا دينامت التي بقيت إلى جانبه.

نساء كثيرات فعلا، وعلاقات واضحة الاضطراب، لكن يبدو أن التاريخ أبى إلا أن يخلد اسما صار مقترنا باسم فرانز كافكا إلى يومنا هذا. الوحيدة التي اقتربت منه وفهمته وساعدته على تجاوز هواجسه وأحزانه.

ميلينا جيسينسكا

ولأننا أمام مبدع مختلف، يغرد وحيدا خارج السرب، كانت قصة حبه لميلينا أيضا غريبة وغير متوقعة، فقد بدأت عن بعد، ولم يحظ العاشقان سوى بلقاء أول مقتضب وشبه صامت، هناك في فيينا، ولقاء آخر فيما بعد، عندما ترجمت ميلينا إحدى روايات كافكا، وكان عمره آنذاك ستة وثلاثين عاما.

كافكا، رائد الكتابة الغرائبية والكابوسية، كان يفضل العزلة التي تمكنه من عيش معاناته وحيدا، بعيدا عن محيطه الأسري والاجتماعي، لكنه وجد في مراسلاته مع الكاتبة والمترجمة ميلينا جيسينسكا مخرجا من تعاسته.

ميلينا.. المتزوجة.. البعيدة.. المستحيلة

لرسالة الأولى مؤرخة في أبريل 1920، دون أن يجمعهما رابط زواج أو حب، وكانت ميلينا آنذاك في فيينا، تحاول أن ترسم لها مسارا بارزا في الكتابة والترجمة، وتعاني من مشاكل مع زوجها، فكانت ترجمتها لرواية كافكا بمثابة توطيد للعلاقة الدافئة بينهما.

يبوح كافكا في رسائله لميلينا بمكنونات قلبه، ويتضح لنا أننا أمام شخص عاشق للحياة، تواق للمضي قدما في إبداعاته وفق نظرته الخاصة للعالم، بعيدا عن الأجواء الكابوسية والتشاؤمية التي قدمها في أدبه، فهو يعيد ويكرر أكثر من مرة بأنه لا يريد لحبيبته سوى أن تكون بخير وأن تعيش بسعادة، ويراجع نفسه بين الحين والآخر، متسائلا إن كان قد أزعج ميلينا أو أغضبها بتصرف معين، فهو لا يتحمل ضياع لحظات السكون التي يعيشها عندما يقرأ كلماتها، ويحاول بكل ما في وسعه اقتراح نصائح تفيدها في تغيير مزاجها، منتظرا ردودها على أحر من الجمر.

يبدو أن المرض قد ساهم في تعميق جذور العلاقة بين ميلينا وكافكا، فقد أصيبت هي الأخرى بمرض ذات الرئة، ولم تجد من يقف بجانبها سوى فرانز ورسائله، فرانز الذي نصحها بمواصلة علاجها والتوقف عن ترجمة أعماله إلى التشيكية إلى حين تحسن صحتها، فهو حسب رأيه لن يسامح نفسه إن علم بأنها تواصل عملها رغم احتياجها لفترة نقاهة طويلة.

لم يتوقف كافكا في رسائله إلى ميلينا عند تفاصيل علاقته بها فقط، بل تعدى ذلك إلى الحديث عن علاقته بالكتابة وقوة تأثيرها الإيجابي عليه، الكتابة التي حسنت من مزاجه وخففت من آثار أرقه، تحدث عن خوفه من الصراعات المستمرة بين المسيحيين واليهود، عن هواجسه وأحلامه، عن بذله كل ما في وسعه لتجاوز مشاكله وإحباطاته.

استمرت المراسلات بينهما إلى غاية نوفمبر 1923، أي ما يقارب ثلاثة أعوام، كان فيها أفق تطوير العلاقة مستحيلا، فهو معتل الصحة، وهي مرتبطة بزواج، وعندما بدأت حالة كافكا الصحية في التدهور، عاد في مارس 1924 إلى براغ بعد استقراره لسنوات في برلين، مفضلا البقاء إلى جانب أخته التي اعتنت به، ليقضي آخر أيامه في مصحة الدكتور هوفمان في كيرلينغ بالقرب من فيينا، مرفوقا بجورا دينامت، بين 10 أبريل و 3 يونيو 1924، عندما لفظ أنفاسه الأخيرة في المستشفى، عن عمر يقل عن الواحدة والأربعين بشهر واحد فقط، تاركا قصاصة كتبها لصديقه برود، يرجوه فيها رجاء أخيراً بأن يحرق مخطوطاته غير المنشورة ومنها رواياته الثلاث غير المكتملة، لكن ماكس (ولحسن الحظ) لم ينفّذ وصية صديقه كما أشرنا إلى ذلك بداية.

نشرت رسائل كافكا إلى ميلينا باللغة الألمانية عام 1952 بعنوان "Briefe an Milena"، وكانت بالفعل فرصة ذهبية لإعادة قراءة أعمال كافكا من جديد، ومحاولة فهم فلسفته بطريقة أخرى، وقد حررها ويلي هاس الذي قرر حذف بعض الفقرات لأسباب مختلفة، أما أول إصدار باللغة الإنجليزية لمجموعة الرسائل تلك فيعود لعام 1953، وقد ترجمها جيمس وتانيا شتيرن. نشرت الرسائل مرة أخرى باللغة الألمانية بعد إعادة الفقرات المحذوفة عام 1986، تبعتها ترجمة باللغة الإنجليزية وضعها فيليب بويهم عام 1990. تضمنت هذه الطبعة بعض رسائل ميلينا (التي توفيت في الأربعينات) إلى ماكس برود، إضافة لأربع مقالات كتبتها ونعيا لكافكا، أما رسائلها هي إلى كافكا فيبدو جليا أنها قد أتلفت.. بعد ظهور عدة ترجمات عربية، صدرت ترجمة حديثة بداية عام 2017، عن الدار الأهلية في الأردن، من إعداد هبة حمدان.

هذه التدوينة منشورة على موقع الجزيرة مدونات

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
تحميل المزيد