بعد أن ودّعنا سنة 2017 وبدت الملامح الأولى لـ2018، وقفزنا سريعاً إلى ضفة العام الآخر، فليس هناك وقت بدلَ الضائع؛ لأنه لو حُسب فربما يستوجب إضافة سنة أخرى في عمر 2017.. هيا بنا نهرع إلى قائمة الأهداف التي كتبناها ذات مساء رائق في أوائل يناير/كانون الثاني السابق بعد سماع أغنية مؤثرة ألهبت أحاسيسنا.. هاتِ القائمة، وناولني تلك الكتب التي كنت قد أزمعتُ قراءتها أقرأ منها شيئاً، ولو عنوانها، بعد انقضاء العام.
لماذا كانت هذه السنة أسرع مما ينبغي؟ لماذا كانت أيامها بهاته الرشاقة وكأنها تتدرب لتنافس الحسين بولت مع أنه عزم اعتزال المضمار؟ أتراني طرحت الأسئلة نفسها في ديسمبر الماضي ولم أعد أذكر؟!
إن درس التجربة يعلّمنا أن الأيام والسنوات لا تُقاس بالعدد، ولكن بما أنجزتَه فيها وبالتجارب الحقيقية التي راكمتها.. فقد تلتقي صديقاً لم تره منذ سنة فيسألك: ما جديدك؟ فترمقه بنظرات شاردة ثم تفكر بسرعة هل هناك فعلاً شيئاً يستحق أن يُحكى ويقال، تفتِّش في أرجاء ذاكرتك فلا تجد إلا القديم المعاد المكرور.. ثم تطرح في نفسك سؤالاً مهما: هل التكرار والروتين مشْكل؟
فأكثر الناس يبحثون عما يسمى الاستقرار، وهو في إدراكهم ليس سوى دخلٍ مضمون، ومنغصات أقل، وأبناء في مدرسة محترمة، وتلفاز 40 بوصة.. وهل الاستقرار بهذا الفهم "حرام" أو عيب؟ ما المشكل في أن يموت الإنسان عادياً مستقراً، سنوات عمره نخرتها الرتابة؟ هل هي منطقية تلك السخرية التي كان يتبجح بها رواد التنمية البشرية حول الإنسان "عاديّ" المسكين؟
الحقيقة، ربما أن "عادي" ليس بذلك السوء، وأنه إن بلغ بـ"عاديته" حافَة القبر فمات لا له ولا عليه، ولو أنه لم يسمع به أحد قط، فإنه من المحظوظين.. إنه يشبه في بُعد آخر ذلك الأعرابي الذي أتى النبي يسأل عن الإسلام فأمره بالصلاة والصوم والزكاة ثم أدبر وهو يقول: "والله لا أزيد على هذا ولا أنقص"، فقال عليه الصلاة والسلام: "أفلح إن صدق".. يعني أن الفلاح ممكن، ولكن إن توافر شرط الصدق.
أو بتعبير آخر: إن السيد "عادي" يمكن أن يكون من المفلحين، بشرط أن يستطيع أن يبقى عادياً ولا يتدحرج إلى منزلة "سيئ"، وهذا تحدٍّ ليس بالسهل وعليه مدار الأمر كله.. فالناس، كما قال الله عز وجل: "لِمَن شاء منكم أن يتقدم أو يتأخر"، بين متأخر ومتقدم ولا حالة وسط اسمها "العادي" أو الثابت في مكانه؛ فإما متقدم وإما متأخر، فمن لم يكن من زمرة المتقدمين فلا بد أن يكون متأخراً.
إن الوقوف أو الرضا بالحياة الرتيبة ليس فيه مشكل في حد ذاته بقدر ما إن الوقوف مظنة التأخر. وبعد سنين من الرتابة، لن تكون أنت كما كنت قبل هاته السنين، ولكن لا شك في أنك ستكون فكرياً وعقلياً ونفسياً، وربما جسدياً، أضعف وأوهن.. فالتحديات هي التي ترقى بالمَلكات.. وأقصد هنا -بالأخص- التحديات التي تحمل نفسك عليها لا التي تُفرض عليك قسراً.
فإن كنت تقرأ مثلاً بمعدل محترم ثم توقفت عن القراءة مدة، فإن قدراتك اللغوية والفكرية -لا بد- ستضمحل وتتلاشى، ولن تحافظ على مستواها الذي كانت فيه لحظة توقفك عن القراءة.. أو خذ مثالاً، توقُّف رياضيٍّ عن التمرين.. والحياة ملأى بالتحديات المتجددة وخيار الكمون في جيب الرتابة سيجعلك غير مؤهل بما يكفي لمواجهتها..
إن المنطق السليم هو أكثر شيء موزَّع بالعدل في العالم كما يقول ديكارت، ولكني أخال أن الوقت في اليوم الواحد أو السنة الواحدة هو أكثر شيء، وهو كالمنطق السليم، في الناس الزاهدُ في هذه القسمة، وفيهم المتشبث بحقه الصارف له على أحسن الأوجه.. والوقت كما كان أبو حامد يقول: "مَثَل الإنسان في عمره كمَثل رجل كان يبيع الثلج في أيام الصيف ولم تكن له بضاعة سواه، فكان ينادي في الناس ويقول: ارحموا من رأس ماله يذوب".
هو رأس المال وهو كالثلج يجب أن تضعه في إنجازات وتجارب حتى تستفيد من طاقته (التبريدية في حالة الثلج) وحتى يبقى محفوظاً فيها بعد أن حُفظت به.. ومشاغل الحياة تشبه حرارة الشمس، فكلما ارتفعت الحرارة وتعددت وكثرت المشاغل فلا بد أن تصير أدعى للخوف على ثلجك.
قد يكون الإنسان "عادي" محقاً في اختياره أو في اضطراره، ولكنه يجب أن يثبت أنه سيبقى عادياً بمرور الوقت وتجدُّد التحديات، وأنه لن يصبح سيئاً ومخفِقاً.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.