إن القول بأن الأديان سبب للتخلف الحضاري ليس بجديد ولا بدعة؛ بل هو ضارب في القدم، يعلو ويخبو تبعاً للظروف السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وبعد الكوارث والحروب عادةً ما يطلُّ الإلحاد برأسه أو برؤوس عديدة وجديدة، رغم أنها تحمل الأفكار القديمة نفسها، فإنها تقدم بلُغات معاصرة وجديدة (من مفرداتها: المدنية، والتمدن، والحوار المتمدن، والعلم، والتنور، والتنوير، والتقدم، والتحضر…).
ولقد أصبح الناس أكثر جرأةً في عالم التواصل الافتراضي الاجتماعي على طرح أفكار للعلن، كانت لفترة من الزمن خبيئة الجلسات الخاصة والمنتديات ضيقة الانتشار ومجموعات محددة جداً من الناس.
لا يخفى على أحدٍ الموجة الحالية العالية من الأصوات المنادية بالإلحاد في ظل ظروف سياسية، واجتماعية، واقتصادية متردية جداً في العالم العربي والعالم الإسلامي، وبعد ظهور جماعات متطرفة للغاية قامت بأبشع الجرائم تحت الكاميرات وبإخراج احترافي وصدَّرتها للعالم مرفقةً بتصورات دينية.
تكرِّر هذه الأصوات مجموعة من الأفكار عن مسؤولية الدين في تخلف المجتمعات المتدينة باستعمال طريقة توصيفية لظواهر المشكلات (من فقر وجهل وتخلف..)، أو توصيف لمظاهر الحضارة (من مركبات فضائية، وكهرباء وجامعات ومعاهد بحثية وطائرات وصواريخ…)، أو تكرار لصور نمطية والتركيز عليها وتقديمها على أنها كل الدين (كبعض الفتاوى الغريبة أو بعض الطقوس الشاذة، أو بعض الصور القبيحة لمن يدّعون تمثيل دين ما).
ومن النادر جداً أن ترى ضمن هؤلاء باحثاً حقيقياً في أسباب نهوض وتدهور الحضارات يقدم تشخيصاً صحيحاً وتصورات عملية للحلول. وأكثر من ذلك، من النادر أن ترى أحدهم حقق أي نجاح مما يدعو إليه على الصعيد الشخصي.
ورغم إمكانية ضرب آلاف الأمثلة الفردية عن ترافق التدين والإبداع في الماضي والحاضر ومن مختلف الأديان، السماوية منها أو التي تحمل معتقدات تبدو للبعض مضحكة وساذجة- فإن هذه ليست بطريقة علمية لمقاربة الموضوع.
هل الإسلام هو أول دين يُتهم بأنه سبب تخلُّف أتباعه؟
طبعاً لا؛ فلقد دأبت الماكينة الإعلامية للإمبراطورية البريطانية إبان فترة احتلالها الهند، سواء عبر صحفها الناطقة بالإنكليزية أو باللغات المحلية، وعبر أقلام وأفواه هندية محلية، على وصم الهندوسية بأنها السبب الأوحد لتخلُّف الهنود وفقرهم وأن عقيدتهم وتصوراتهم للحياة هي السبب في تبعيتهم وعدم قدرتهم على مقاومة المحتل رغم أنهم يفوقونه عدداً بأضعاف مضاعفة، وأنه إذا أرادوا أن يلحقوا بركب الحضارة فعليهم أن يتركوا عقائدهم بلا عودة.
وقامت بالحملة نفسها، عند احتلالها أراضي كانت تخضع لحكم الصين، على البوذية وأنها وراء تخلُّف وفقر هذا العدد الهائل من البشر.
وبالقفز الى عام 2030، تقول كل الدراسات الاقتصادية إن الصين والهند ستكونان الاقتصاد الأول والثالث عالمياً، مخلّفتين وراءهما كل أوروبا، وستخلف الصين حتى الولايات المتحدة خلفها.. فما الذي حدث وأدى إلى هذه الطفرة النهضوية والحضارية؟ هل تخلى الصينيون عن البوذية؟! وهل تخلى الهنود عن الهندوسية؟!
أبداً؛ بل هما من أكثر الشعوب تمسكاً بالتراث والمعتقدات، وقد شاهدت بنفسي أعراساً ومناسبات لجيل ثالث من الصينيين والهنود في الولايات المتحدة الأميركية، وكنت أشعر بأنني في الصين أو الهند؛ للحفاظ العجيب على الطقوس والعادات وتفاصيل التفاصيل، في حين حضرت مناسبات لعرب ومسلمين من الجيل الأول قد تأمركوا أكثر من الأميركان!
اليهود 2% من تعداد سكان العالم، قد حصلوا على أكثر من 20% من جوائز نوبل، فهل اليهود ملحدون؟
لقد عشت عامين بين 2014 و2016 في حي يهودي بإحدى ضواحي مدينة بالتيمور في ولاية ميرلاند الأميركية، وقد أصابتني دهشة استمرت شهوراً وكأنني قد غادرت أميركا وعشت في بلد آخر هذه المدة، وسبب دهشتي هذه هو الالتزام الديني الصارم الذي رأيته في هذا المجتمع اليهودي، لدرجة أنني أقول -وبكل ثقة- إنني لم أشهد أي مجتمع مسلم (عشت فيه) بدولة عربية، وليس في أميركا، أكثر التزاماً دينياً مما رأيت في هذا الحي اليهودي.
فعلى مدى عامين، لم أرَ امرأة واحدة أو فتاة ترتدي البنطال أو ثياباً تكشف الجسم أو تجسّمه، أو رجلاً لا يرتدي طاقية على رأسه وبنطالاً أسود تنسدل منه خيوط، أو ثياباً ملونة للجنسين، إلا في المناسبات، وإنما غالباً اللونان الأبيض والأسود؛ الإجهاض محرَّم والأسرة وسطياً 5-7 أطفال؛ قيود صارمة جداً جداً على الطعام المحرم، ولا يثقون بأية شركة لتقوم بتصنيع أطعمتهم، وإنما يصنعونها بأنفسهم أو عبر شركات صغيرة يملكها أحدهم.
كان مكان العبادة في الحي أشبه ما يكون بخلية نحل، ولم أذكر أنني قد مررت بسيارتي أمامه مرة ولم يكن يدخله أو يخرج منه رجال ونساء وأطفال مهما كان الوقت باكراً أو متأخراً.
أما يوم السبت، فيتفرغون للعبادة ولا يلمسون أي أجهزة كهربائية أو إلكترونية، ولا يستعملون السيارات، وكنت أراهم يجوبون الشوارع مشياً على الأقدام مع أسرهم بالكامل يوم السبت مهما كانت الحرارة مرتفعة أو متدنية حتى التجمد، ويقومون بقراءة كتابهم المقدس على كل زاوية في الحي ووراء الأشجار وعلى ضفاف السواقي بطريقة أدهشتني وأنا القادم أصلاً من مجتمع محافظ!
وأستطيع أن أذكر تفاصيل كثيرة جداً أخرى، لكن لا أريد الخروج عن الفكرة العامة للمقال. لكنهم كدين وعرق أقرب إلى الإسلام والعرب في معتقداتهم وأشكالهم.. فهل منعهم تزمُّتهم الديني في أكبر بلد رأسمالي من التحصيل العلمي أو بسط نفوذهم على قطاعات واسعة جداً من الاقتصاد الأميركي أو امتلاكهم 90% من وسائل إعلامه؟ طبعاً لا؛ بل قد فرضوا على البلد قوانين تمنع أي أحد من التعرض لهم كشعب أو ديانة.
هل الإسلام والحضارة لا يلتقيان؟
أظن أن الجواب بديهي جداً لمن يملك القليل جداً من المعلومات التاريخية.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.