بالساحة الكبيرة وسط المدينة، بين أشجار خضراء مُحيطة برصيف زيَّنه الأبيض والأحمر.. خرير مياه يدقُّ أديمَ الأرض مذ عشرات السنين، منبع المياه هذا تعلوه امرأة غجرية تقبع هناك منذ زمن بعيد.. تختلف الروايات الكثيرة حول تشبُّث التمثال بتلك الأرض، أقرب سطورها للخيال قد يمتُّ إلى الواقع بِصلة.. واقع يقال إن كثرة تردُّد المسلمين قُبيل كل صلاة على المنبع المبارك لأداء فريضة الوضوء أجبر الفرنسيين في حقبةٍ ما على تعرية هذه المرأة الغجرية صباحاً ومساءً أمام أعين المارة؛ منعاً للوضوء والصلاة وربما تلبية لغرائز باطلة.. عادة قديمة تجاوز مداها احتلال الجزائر واستقلالها.
قبل أيام، أطلقت الحناجر، على اختلاف نغماتها وأصواتها، العنان للحديث عن المرأة الغجرية، السبب إقدام شاب ملتحٍ على تحطيم أعضاء من التمثال.. مشهد وثّقت عدسات الهواة بالساحة الكبيرة لحظاته الحماسية.. رجل يلبس رداء أبيض ناصعاً وهو يصعد فوق المنبع، ليس لأخذ صورة مع المرأة الغجرية كما يفعل أغلب زوار مدينة الهضاب العليا شرق الجزائر.. بيده مطرقة صغيرة وأداة نقش تشبه إزميل النحاتين، كلما ازدادت دقات التحطيم ازداد تجمهر الناس حول هذا المشهد السينمائي، الذي توقَّف فجأةً بعد سيطرة أعوان رجال الشرطة على حركات الرجل. في المقابل، انفلتت الأوضاع خلف جدران مواقع التواصل الاجتماعي، التي حوَّلت هذا الشاب المدعو عباس إلى مربط فرس كل المنشورات.
الانتقادات والتشكرات التي رسمت اختلافاً واسعاً بين مجتمعٍ عنوانه التناقضات، طفت على السطح. قد يقول قائل إن أحرفي هذه وصلت متأخرة عن الركب الذي مرّ من هنا ذات مساء وليلة وصباح! بحكم أن القضية التي تناقلتها الألسن قبل الأحرف خفت صداها.. الأمر ليس كذلك وعباس ليس وحده من أثار زوبعة حول هذا التمثال الذي يشبه مسمار جُحا تماماً كما يشير إليه مَثلنا الشعبي "حجرة في السباط".
يلومنا الكثير من الإخوة والأخوات -نحن الإعلاميين- على طريقة تقديم الحادثة للرأي العام؛ بل إن البعض طالبوا بتمجيد عمل هذا الملتحي؛ لكونه تجرَّد من الخوف والارتباك ومِن صمت المجتمع الطاغي خلف صفحات هذا الملف.. إعلام هدَّام مضلل لا يعرف الخير لا للوطن ولا للشعب ولا لغيره، عنوانه "خالِف تُعرف"، و"فرِّق تَسُدْ".. وإعلام بنّاء هادف لا همّ لرسائله سوى بصمات إيجابية نيّرة بالمجتمع، عنوانها مصلحة البلد فوق كل اعتبار.. هل يستويان مثلاً!
لسنا نسير بقانون غاب يوفر كل الحريات لكل الأشخاص.. القوي يأكل الضعيف والعاطفة سيدةٌ على العقل.. لنفترض أن عباس كان ذا بأس وحياء وفطنة ورجل خير أراد تغيير المنكر بيده.. وجاءت وسائل الإعلام وصوَّرته على أنه بطل قلّ أمثاله، وأن ما قام به يجب أن يكون مبدأ راسخاً وقدوة لكل جزائري يملك غِيرة على مجتمعه!
حينها، ستتكرر المَشاهد نفسها، ونرى بعد صور عباس جمعاً من العباسيين المرابطين في كل ولايات الوطن وخلف الساحات العمومية يحطمون التماثيل بدل بناء المساجد، ألا ترون أننا سنعرف لحظات؛ بل زمناً من الفوضى التي قد تحيد بالسكة نحو المجهول.. سترسم لنا المشاهد صور الحروب التي شنَّها أفرادُ من يلقبون أنفسهم بـ"الدولة الإسلامية في العراق والشام" ضد حضارة قامت أحجارها لمئات السنين.. سيُخيَّل إلينا أن تماثيل الشهداء والثورة التحريرية هي أشد ضلالاً من هُبَل وزمرته!
ها قد هدأت العاصفة ودون خسائر تُذكر.. غير أن ما ستنفقه الحكومة الجزائرية من أموال كبيرة لعملية جراحية دقيقة وحساسة تستفيد منها المرأة الغجرية، هو الخسران المبين، بيد أنها مجرد صنم لا يسمن ولا يغني من جوع. ولهذا السبب، فأنا أدعم حسرة البعض الذين يرون أن هناك أولويات جمّة للشباب والشيوخ والوطن من هدر المال العام في معالجة المرأة.
وجهُ المرأة سيتغير، نظراتها كذلك، وحتى ابتسامتها لن تظل كما هي.. يقال إن من زار الفوَّارة فسيزورها مراتٍ.. زوَّارها في المستقبل سيتساءلون -لا محالة- عن سر تغييرها.. إن سألوكم فلا تجيبوا ولا تقولوا شيئاً.. فقط اهمسوا لمن يحدّثكم: سمعنا فتىً يذكرها يُقال له عباس.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.