لستُ من هؤلاء الذين يندمون إذا ما فاتتهم محاضرة، فقد مرّ بي عامٌ تام ولم أختل فيه بأستاذ يمر بقاعة المحاضرات.. لم أكن من أهل مدرجات المحاضرات العامة والخاصة منها حتى..
لا أندم إن فاتتني محاضرة وإن رغبت فيها، دائماً عندي ما هو أهم.. لكنّي العام فقط ونصف العام الماضي، غَيّرت مبادئي بفضل أستاذٍ كريم، فأنا -وبغير عادة- تمنيت لو أني شرُفتُ منذ زمنٍ بحضور محاضراتٍ لأحد الأساتذة!
وكانت الدهشة! فلم يمر بي أن رأيت أستاذاً يحرص على إصلاح فكر الطلاب وتعليمهم أكثر من حرصهم أنفسهم. وإن كان هذا الأصلُ أصلاً في المعلم الحق، وأصل الطالب أن يُجلّ معلمه ويطيعه في أمره، فإنه لم يعُد هذا الأصل موجوداً في ذاك الزمان..
فكان الأستاذُ نادرةً في صرح دار العلوم رغم عِظمها، ومنازل علمائها وأساتذتها العالية..
يغضب الأستاذ في المحاضرة ويمتد غضبه لمحاضرات متتالية، لا لشيءٍ إلا لأسفِه على ضيق أفق الطلاب وقلة محصلاتهم اللغوية والثقافية والخُلقية..
على مستوى العام الأخير -والفضل لله- يرجع إليه الفضل في تقدمي اللغوي، وإقدامي على المشاركة في المحاضرة، والتأمل فيما وراء الألفاظ، وإتقان ما تقع عليه عيناي من أركان اللغة ومعارفها النقية.
تعلمت منه أن اللغة وآدابها تنقل الإنسان من الوحشية إلى الآدمية، تجعل رجل الغابةِ ملكاً شريفاً صاحب علم وأدب، وأن اللغة تُعلي الرجلَ أعلى المراتبِ إن لزمها، وتحطُّه أحط المنازلِ إن تركها..
تعلمت -وأكثر ما تعلمت- ألا أترك عملاً ناقصاً أبداً، وكأنه حين شرع في مدارسة علم الحديث بدأ بحفظ حديث رسول الله "إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه"، فأقسم على إتقان كل عمل يُوكل إليه، وإن لم يرُقه، كما يزعم عن أغلب محاضرات العام.
ومن أصدق ما سمعت منه، قول "مَجالس العلم بركة".. فإني لم أجد لي بركة في الفهم، ومطالعة النصوص وما وراءها، والبحث في شبيهاتها، وتطبيق مناحي الأدب وخصائصه على رؤيتي للكُتاب من حولي، بقدر ما وجدت البركة والفَهم في مجلس علمه.
لم أكن بناصحةٍ أحداً بحضور محاضرات أحد الأساتذة قط، لا لشيءٍ إلا أني لا أرى أحداً يصبّ العلم لأنهل منه، لكنهم يعيدون ما نقشوه كتابةً ووضعوه بين أيدينا، فأذكر قولاً بأن زِيد الكتابُ نُسخة! اللهم إلا من رحم.
لكنّي العام هذا ما قابلت طالبةً في أي من الفِرق الأربع إلا ونصحتها بحضور محاضرات أستاذنا.. فأُخبرها بأنها ستقوم بتكليفات كثيرة سترى فيها عالَماً جديداً وقد تجد ثِقلاً -يُفترض به بين أهل العلم- ولكنها ستنهي العام وهي تشعر بالعلم في خلاياها يسير، وفي ثناياها يجري مجرى الدم.
أرى أن اختيار أستاذنا لدراسة الأدب من بين فروع اللغة العربية هو اختيارٌ يشفُّ عن نفْس راقية وصبغة أصيلة مُهذبة.. واختياره العصرين الجاهلي والحديث من بين عصور الأدب، نستشف به ما تشكّلت منه شخصيته من أصالة العربية الأولى ومعاصرة المجتمع الحديث، دون الإخلال بإحدى الخِلتين أو التقصير في واحدة على حساب الأخرى.
أستاذنا هو أحمدُ صلاح، للدارِ بنَّاء.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.