في بلدتنا الصغيرة ما يزيد على الثلاثين مسجداً، منها الجامع ومنها الزوايا وأكثرها متوسطة الحجم والسعة، مختلفة الأشكال والزينة والقباب والمآذن، لكنها جميعاً اتفقت على ألّا تكون إلا للصلاة فقط، فتفتح قبل الأذان بخمس دقائق، وتغلق بعد الصلاة بعشر، حتى إنني قد أغلق الباب عليّ مرة حينما أطلت في إتمام ما فاتني من صلاة الظهر، واضطررت لانتظار عامل المسجد ليخرجني.
لم يخالف تلك القاعدة إلا مسجدان أو ثلاثة، منها مسجدنا الذي أُوقدت جذوة الإيمان في قلوبنا من مِشعله، مسجد سيدنا أبي بكر الصديق الواقع في شارع بلدتنا الرئيسي، والمشهور بسلمه العالي الطويل.
في مسجدنا على خلاف مساجد البلدة كنا نتعلم القرآن ونتبارى في حفظه وتلاوته واستخراج الفوائد بعد تدبّره، كنا نتدارس كتب الرقائق ونتشارك في رفع إيمانياتنا، كنا نحفظ الأحاديث ثم نتنافس في تطبيقها، كنا ندعو أصدقاءنا وجيراننا وزملاءنا من المدرسة ليشاركونا خير مسجدنا، وكانت أولى خطواتنا على طريق الدعوة، وفي أيام الامتحانات كنا نجتمع فيه للمذاكرة تشجيعاً لبعضنا وتيمناً بمسجدنا، وفي رمضان كان المسجد بيتنا الأول والوحيد بلا منازع، كنا في تسابق دائم على الخير تحت سقفه، ولم نكن بمعزل عن قضايا أمّتنا فكنا نخصص وقتاً لمناقشة قضايا الأمة، وبخاصة فلسطين وأخبار المسجد الأقصى، فكان المسجد منبرنا الديني والثقافي والسياسي، ومشعلاً لجذوة الإيمان وسراج الفكر.
لم يكن اختلافنا ومسجدنا عن المساجد الأخرى وروادها؛ لأنهم يتبعون غير ديننا -حاشا لله- لكننا فهمنا الإسلام بمعناه الحقيقي، وأخذناه كله على عكسهم ففهمنا الإسلام مصداقاً لقول الله عز وجل: "وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِم مِّنْ أَنفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيداً عَلَى هَؤُلَاءِ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ" (النحل: 89)، على أنه "نظام شامل يتناول مظاهر الحياة جميعاً، فهو دولة ووطن، أو حكومة وأمة، وهو خلق وقوة، أو رحمة وعدالة، وهو ثقافة وقانون، أو علم وقضاء، وهو مادة وثروة، أو كسب وغنى، وهو جهاد ودعوة، أو جيش وفكرة، كما هو عقيدة صادقة، وعبادة صحيحة، سواء بسواء"، كما أورد الإمام البنا في الأصل الأول من أصوله العشرين.
لذا كنتيجة طبيعية أصبح المسجد الذي هو مركز هذا الدين وحيث يقام عماده محوراً ومركزاً لنمونا الإيماني والفكري والسياسي، كما كان منذ أن ردد الرسول صلى الله عليه وسلم: "اللَّهُمَّ لا خَيْرَ إِلا خَيْرُ الآخرة؛ فَاغْفِرْ لِلأَنْصَارِ وَالْمُهَاجِرَة"، وهو ينقل الصخر مع الصحابة لبناء أول مسجد في الإسلام؛ وإنه حينها ما سُمي مسجداً لأن الصلاة تقام فيه وعلى أرضه تسجد الجباه لله فقط، ولكن لأن فيه سجدت العقول والقلوب لله وتحركت من منطلق هذا السجود بأمر الله وشرعه في شتى دروب الحياة، فكان المسجد هو المدرسة التي أوقدت فيها سُرج الفكر للصحابة رضوان الله عليهم، والمحكمة التي تَرد المظالم لأصحابها وتنشر العدل في المجتمع المسلم، ومقر الحكم الذي تخرج منه كل القرارات السياسية والعسكرية، ومنه جيّشت الجيوش ووزعت الألوية على أصحابها في الغزوات والسرايا، كما أنه كان مقر اجتماع المسلمين لكل كبيرة وصغيرة وفي كل فرح وحزن، محل الأعياد ومخرج الجنائز.
وحافظ المسجد على مركزيته هذه حتى بعد أن أصبح للمحاكم وقيادة الجيش والوزارات دور مستقل، فقد استمر في وظيفته التربوية والتعليمية والتوعوية والاجتماعية التي أخرجت القضاة والقادة والمجاهدين ممن سكنوا دور القضاء والحكم، وقادوا الجيوش فلم يفقد من دوره على عهد الرسول شيئاً غير أنه صار له أفرع مختلفة يختص كل منها بجانب من حياة المسلمين كنتيجة طبيعية لاتساع رقعة الدولة.
ومتى حوفظ للمسجد على دوره هذا أصبح حال المسلمين أقرب إلى ما كان عليه في عهد الرسول، وأيان فقد مركزيته وقصر دوره في الصلاة فقط وأُبعد عن الحكم والقضاء أصبحت الحال كما نعيشها الآن.
وهو كذلك ما فطن إليه الأعداء فجعلوا له نصيباً كبيراً من حربهم الفكرية في فترة الاحتلال التي استمرت لأكثر من قرن؛ فعملوا على حصر مفهوم الإسلام الشامل في مفهوم العبادة الضيق الذي لا يشكل أكثر من خمسة عشر بالمائة من ديننا الكبير، وكذلك خنق دور المسجد وحصره في الصلاة فقط، وعزله عن حياة الناس بشتى جوانبها.
فكل الثورات التي قضت مضاجع الفرنسيين والإنكليز في مصر لم تخرج إلا من الأزهر، ولم يقدها إلا علماؤه الربانيون السياسيون المجاهدون. والفدائيون الذين انتشروا على طول القناة حيث يتمركز الإنكليز وكبدوهم الخسائر الفادحة حتى أجبروهم على الانسحاب من مصر لم يكونوا إلا ثمرة تربية هذه المساجد.
ولكن بعد انسحاب المحتل لم تتوقف الحرب الضروس فقد ترك عنه نواباً مخلصين حربهم على المساجد فاقت أسيادهم؛ فأغلقوا بعضها بالشمع الأحمر، ومنعوا صلاة الجمعة في بعضها، وأطلقوا كلابهم المسعورة على المنابر تعوي بحمدهم، ومنعوا دروس العلم وحلقات القرآن؛ بل منعوا أي تجمع في المسجد حتى فرغت المساجد من مضمونها وحصر دورها في الصلاة فقط؛ بل إن الناس صاروا ينكرون على مَن يخالف ذلك.
فوصلت الحال بأحدهم أن احتج على المرابطة خديجة خويص وصورتها التي تناقلها الكثيرون على وسائل التواصل الاجتماعي بكل حب وهي تضع "المقلوبة" وتجهزها لمائدة الإفطار في الأقصى، بحجة أن الأقصى للعبادة فقط وصور الطعام لا تليق به، وهو إن كان يدري حقاً فإفطار في الأقصى بهذه الصورة لهو رباط وجهاد في سبيل الله "فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ".
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.