تعدّدت المنافي والشَّوقُ واحد

هناك مَن أوصلتهم سفنهم إلى أوروبا، أولئك في نظر من لم يظفر بمقعدٍ في تلك السفن هم الأوفر حظاً، وفي نظرهم المسافر على أعتاب الوطن هم حقاً الأوفر حظاً، لكن في الشقاء والاغتراب.

عربي بوست
تم النشر: 2018/01/03 الساعة 02:36 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2018/01/03 الساعة 02:36 بتوقيت غرينتش

يمرُّ العُمر كنهرٍ جارٍ لا نملك إيقافه عند المنظر الذي يستهوينا، لا نستطيع إلا أن نجذّف بكلّ ما أُوتينا من قوةٍ هشّةٍ دون أن نعرف إلى أين سيوصلنا.

في معترك تلك الرحلةِ وبصرخةِ الحرب التي أُطلقت في وطننا وجدنا أنفسنا منفيين إلى أوطانٍ جديدةٍ لفظت البعض منّا واحتضنت البعض الآخر، فمنّا من لم يبتعد كثيراً عن الوطن تعكّز على همومه وسارَ حتى دول الجوار وأسندَ ظهره على كتفِ وطنه الذي يعانقُ حدوده؛ ليكون أول من يسمع زغاريدَ العودةِ.

بقيَ ما بينَ بين، يعيشُ على هامش الحياة يدَّخر ما بقيَ فيه من روحٍ ليجمعَ رُكامَ بيته القديم، ويُعمّره من جديد، بينما أبناؤه يعمّرون بلادَ الأغراب من الأعراب، تصفعهم في اليوم ألف كلمةِ غريب وألف عبارة تساؤلٍ "إلى متى ستبقون هنا؟".

كلما بنى في قلبه حلماً هدمته قسوةُ وجوههم، وكلما فتح على المستقبلِ باباً أغلقته صلابة أيديهم، فيعودُ منكسراً إلى أمه أو زوجته لتداويه بقولها: "إنا للوطن وإنا إليه لراجعون"، وفي قلبها ضجيج آلاف الآهات..

ومنّا مَن ابتعدَ قليلاً، لكنه بقي ضمن حدود الوطن العربي مدّ جسده بقدر ما يتّسع بساط أحلامه المهترئ كروحه وولّى قلبه شطرَ مسقطه، زاولَ أعمالاً لا تشبهه ولا تمتّ لدراسته بصلةٍ، حتى نسيَ أنه كان من رواد الجامعاتِ يوماً.

تجده يعودُ منهكاً كوطنه بعينٍ مفتوحةٍ رغم التعب وأخرى أغمضها الوَصَب، يُقلّب التلفاز على نشرات الأخبار، يبحثُ عن خبرٍ عاجلٍ يُعجّل بالرجوع، فينام على وسادة خيبته يحتضن بعضاً من أمل لليوم التالي.

وهكذا مرت السنون، فإذا بنا أصبحنا نشبه تلك البيئات التي كُتِب علينا أن ننغرس فيها دون أن نشعر.
كم بتنا نشبه تلك الصحراء! كيف باتت مرآةً لقلوبنا بقسوتها، بجفافها، ولو كسرتنا آلاف المرات دموع الحسرة التي نذرفها، وقتها لن تسقي أكثر من بقعةٍ صغيرةٍ حولنا؛ لنزهر في محيط أقدامنا، ولا نبتعد بأحلامنا خطوة، فأرض الأحلام في الغربة أغلى بكثير مما ظننا، يمكنك أن تستأجر منها بقدر ما تملك، ولكن تملك فيها ولو شبراً، فأنت فيها مجرد رقم، تلك البلاد كانت أقسى مما نستحق لا هي أعطتنا ولا هي سمحت لنا أن نعطيها، جعلتنا عاطلين عن كل شيء إلا الشوق.

كانت هي المنطقة الوسطى ما بين الوطن والمنفى، لا هي تعترف بك ولا وطنك يفتح ذراعيه لعودتك، لك فيها قُوت أحلامك وذكرياتك فقط، لكن احذر أن تُسرف في الحلم فقد يكون الثمن قثطرةً قلبية لا تملك ثمن إجرائها، كل ما تملكه هو أن توطّد علاقتك بمن حولك حتى تجد من يسعفك لحظتها، ويملأ حقول بياناتك الفارغة، بينما أنت ملقى على الباب تنازع شوقاً، وجعاً، واغتراباً.

هي كانت نتيجة طبيعية لواقعك، فكلما سُدّ في وجهك باب انسد معه شريان.

تسلم أمرك لمدبر الأمر، فالعمر بيد الله، والوطن بيد الجلاد وتنتظر..

وهناك مَن أوصلتهم سفنهم إلى أوروبا، أولئك في نظر من لم يظفر بمقعدٍ في تلك السفن هم الأوفر حظاً، وفي نظرهم المسافر على أعتاب الوطن هم حقاً الأوفر حظاً، لكن في الشقاء والاغتراب.

حتى كانت مهمتهم أصعب في ابتلاع الحياة فهم القابضون على الجمر، كلما حاولت أوروبا إفلات يدهم عن حبل دينهم يتحسَّسون تلك النيران وتذوب جلودهم احتراقاً.

في كل مسيرٍ للوصول إلى مسجدٍ في يوم جمعة لا يجمعهم بذويهم فقط يحاولون التقرب إلى الله بفروض قليلة تجمع شتات أرواحهم، وتلقي بهمومهم بين يدي الله؛ ليتسرب نور السماوات إلى كهف اغترابهم.

في كل فرصة عملٍ تضيع منها بعد نظرة ازدراء من حجابها، فتراهم أيضاً شابهوا تلك البلاد في بردها وصقيعها، تجمّد كل ما فيهم إلا الأمل!

أولئك المحاصرون بالفتن ومع ذلك يشدون قبضتهم على جمر تلك البلاد ففي زوايا قلوبهم حرائق تفوقه اشتعالاً، كيف تصارع قلوبٌ كل ذلك وهي في طريقها؟! إلى تلك البلدان أطعمت الأسماك أحد أطفالها أو ربما أكثر.

كيف ستقوى تلك الأيدي على التمسك بحبل الدين وهي التي شُلّت من يوم دفن صغيرها؟!

ولا عجب إن جار الزمان عليهم، أكثر وأخذت السلطات منهم بقية أبنائهم لجرم اختناقهم لحظة غضب واقتراف ذنب الصُّراخ عليهم.

يريدون طفلاً حراً سليماً نفسياً، لكن هل سيعوضونهم عن حضن دافئ، حكاية جَدّة، قُبلة حنان؟

لن تُصلح السُّلطات ما أفسدته الصفعات المُهداة من يد الحرب.. هذه نماذجنا.. هذه حربُنا.. هذه ثورتُنا.

تعدَّدت المنافي والشوقُ واحد، وطقسُ القلب غير مستقر.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد