صفحات ومواقع ومبادرات وأشخاص ورموز وكيانات كلها تقول نريد أن نرتقي بالوعي، ومحصلة أعوام قليلة مضت من الحركة والسعي أتت ضعيفة فاترة، والحل أن يدرك أهل العزم هؤلاء بكل وضوح أنه لم تعد مهمتهم نشر الوعي!
فهذا الدور الذي يتقمص فيه المُصلح دور الصحيفة التي تُقرأ والإذاعة التي تُسمع والتليفزيون الذي يُشاهد قد ولّى، فاليوم كل شخص في هذا العالم صار جريدة وموجة راديو وشاشة متنقلة، يستطيع أن يُنتج الصوتيات والمرئيات والمقروءات بأي كم وكيف يريده! ولم يعد ينتظر من يُطعمه الوعي أو يسقيه الفهم.
أما مَن يتوهَّم أن مهمته هي عجن فطيرة الوعي وخبزها وعرضها وبيعها وتقطيعها وغمسها بالعسل ثم إلقاؤها في فم الناس فهو يُضيع عمره سُدى، نحن أمام 2 مليار إنسان أعضاء في موقع "فيسبوك"، فيما نصف البشرية صارت تستخدم الإنترنت، وما يقرب من 5 مليارات شخص يمتلكون هاتفاً نقّالاً؛ لذا لقد صار محل الفطائر بل المخبز كله (هاتف – كاميرا – إنترنت) في جيب مُعظم قاطني الكرة الأرضية.
وكما يقول علماء الإعلام وعمليات الاتصال، إن أي عملية إعلامية اتصالية تتكون من مُرسل ومستقبل ورسالة ووسيلة، وعليه فمن يريد أن يقوم بكل الأدوار سيفشل، فكونك مثلاً كاتباً (مُرسلاً) لا يعني أنك قادر على صناعة محتوى يتناسب مع الفئات المختلفة، فمقالتك صاحبة الـ800 كلمة محتوى جيد لفئة قليلة، ولكنها بحاجة لصنايعية للمحتوى، هؤلاء الذين يحوّلون المعاني والأفكار الجامدة لمحتوى بصري وصوتي جذاب مُبهر، فييسرون وصول المضامين والرسائل الواردة في المقالة لشرائح جديدة، فبدلاً من أن يقرأ الموضوع ألف شخص، فسيسمع المقطع الصوتي الاحترافي 10 آلاف، وسيرى الإنفوغراف الذي يُلخص المقالة 30 ألفاً، وسيشاهد الفيديو 100 ألف شخص.
أما أن تظل ككاتب تنشر مقالتك ذاتها هنا وهناك ظاناً أن هذا نشر للوعي فهذا دفنٌ له، وسط تلال نخبة ليست قادرة بعد على إعادة صياغة محتوى الرسالة بألسن الناس وأفهامهم المتنوعة، ولا قادرة على دراسة الفئات المستهدفة ولا إدراك طبيعتها ولا نفسياتها، فيما يتحرك مسؤولو التواصل الاجتماعي (السوشيال ميديا) والتسويق الرقمي في الشركات والمؤسسات المختلفة في حركة مكوكية لكسب عقول وقلوب عملائهم لاستهلاك المنتجات والخدمات المختلفة، بينما عدمت الأفكار والرسالات أمثال هؤلاء!
هذا ويظن الصادقون أن أعظم عملٍ هو أن تنشر الوعي! حتى جف الوعي لطول نشره في شمس الرتابة الحارقة، وغياب الاحترافية والأدوات والرؤية والاستراتيجية لأي حركة وعي جادة، وها هي معلومة مُعلنة، أفكار الناس لا تتغير؛ لأن أفكارك أنت تغيرت، ووعيهم لا يزيد لأن وعي فئتك (حزبك – حركتك – جماعتك – تيارك) زاد، فكونك تُكلّم نفسك لا يعني شيئاً، وكون من تستهدفه يسمعك لا يعني أي شيء أيضاً، أنت تريده أن يستمع لا أن يسمع، ثم يكون في صف الوعي والصواب والحق، صف صانع للحركة والفعل والتحوّل، وليست جموعاً متراخية تخدّر ذاتها بنفس الأفعال التي تقوم بها منذ سنوات (لايك – شير – كومنت – منشن – بوست) وهاشتاغ (معركة_الوعي).
والحل أن يدرك كل شخص قدراته وإمكانياته، ويُحدد فئة مستهدفة (زميله في العمل – صديقتها في الجامعة – جارك في السكن – موظفي شركة كذا – الـ10 آلاف متابع على تويتر – أطفال مسجد الحي) وبعد أن تحددها تدرسها وتعرف ماذا تحب وماذا تكره؟ كيف تُستمال ومم تخاف وتفرق؟ ثم تضع أهدافاً تريد الوصول لها لتغيّر فكرة أو تحوّل سلوكاً أو تزرع شعوراً لدى هذه الفئة في وقت محدد (3 شهور مثلاً).
كما تضع معايير لقياس هذا الوعي الذي تريد صناعته، هل تريد أن يزداد وعي زميلك في العمل بأهمية الصلاة فيُصلي معكم حين يُرفع الأذان؟ هل تريدين لصديقتك التي تقول "الفلسطينيون باعوا أرضهم" أن تعرف تاريخ فلسطين وكيف سقطت في يد اليهود، وهكذا أهداف مُحددة تُحرّك الناس لأن بعد ذلك نريد زميلك هذا بنفسه من يقوم بعمل فيديوهات لتشجيع الشباب على الصلاة، وصديقتك هذه من تتبنى حملة بعنوان (القدس عاصمة فلسطين الأبدية).
هذا في إطار طاقتك ووسعك، وربما كان كل دورك أن وصّلت شخص بجهة أو مؤسسة أو معهد وتابعت معه، إلا أن هناك فئة طاقاتها وقدراتها عظيمة، ولكنها غائبة! هؤلاء المبدعون "المطرقعون" وهم الفؤاد والروح، كصُنّاع الأفلام والأغاني والروايات والكوميديا و"الفلوجات" و"الأنيميشن" هؤلاء في جزء كبير منهم بعيدون عن معاني الوعي والرسالية وهذا الكلام الذي يبدو لبعضهم سمجاً، وهو كذلك بالفعل أحياناً، بل يبدو أنه كلام فئات الثوريين أو تيارات الإسلاميين أو مجموعات المثقفين، وليس عوام الناس نحن ممن يأكلون "الساندويتشات" ويمشون في "المولات"، ولهؤلاء أقول النخب مقصرة في الوصول لكم، والحل بيدكم بأن يتقدم بعضكم ليقود حركة الوعي في أهل فئته ومجموعته (المصورون – الرسامون – المغنّون – المدربون – مدوّنو الفيديو – المصممون -..) ليُحرّكها وينبهها لدورها؛ لتصبح رقماً صعباً في معادلة الوعي والفهم والفقه في عالمنا العربي.
والآن، لا أخفيكم أن سبب كتابتي لهذه التدوينة هو أنني كتبت مقالتين هامتين بعد بحث جاد، عن كيف يُمكننا استخدام التكنولوجيا والتقنية لإحداث نقلات نوعية على المستوى الدعوي، إلا أنهما لم يحظيا بالاهتمام المتوقع، فأعدت صياغة وتقديم جزء من محتوى المقالتين هنا، بدلاً من أن أعيد نشر نفس الموضوعين هنا وهناك دون جدوى، فعندها سيكون هذا أفشل عمل (أن أنشر الوعي)!
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات "هاف بوست" لا تعبّر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.