الرّوح والجسد طيفان من عالمين مختلفين بالكلّيّة عن بعضهما، إلّا أنّهما جزءان يُكمّلان بعضهما البعض، فيخلقان حياة إذا ما اكتملا، وما إن تفرّقا حتّى فارَقَا.
وكما أنّ الجسد يموت ويبلى لأسباب كثيرة، فالرّوح أيضاً تذبل وتنطفئ وتشهد سكرات موتها إن افتقدت لمقوّمات حياتها.
ألم تقابل أحداً من قبل قد انطفأت روحُه وعتم جسده؟
ذاك الذّي أصبحت الذّكرى لا تعني له سوى مزيد من الألم؛ فكلّ لحظة تذكّره بما مرّ، فلا هو يهنأ بعيشه ولا هو ينسى مرارته، من تُعكّر عليه غصّات قلبه كل شيء فما عاد هناك للحياة طعم، هو ذاك الموجوع المُحمّل بالآلام، الذّي يربت على كتف المهموم والكسير ولا أحد يدري بوجعه وألمه، من يرتمي دوماً إلى مخدعهِ علّه يجد الرّاحة فيه فلا يلقاها؛ فالذّكريات والأحداث تلاحقه وتحاوطه فتنغّص عليه راحته، الذّي يسعى إلى تخدير عقله وصرفه عن التّفكير فكلّما صرفهُ هاجمه من جديد.
غير أنّ الرّوح إذا ما انطفأت وذبُلت نظلّ قادرين على أن نعيد توهّجها وبريقها.
جميعنا مُعرّضٌ للتخبّط والخذلان والخيبات المتكرّرة، للأحزان، للإخفاقات والفشل، للاختبارات القاسية، لفقد الأهل والأحبّة.. كلّ هذا وارد وحتمي في هذه الحياة، لكنّ الحصافة تكمن في كيفيّة تجاوزه وألّا نستسلم ونسقط في بئر الأحزان حتّى يفنينا العفن بداخلها.
أتذكّر حالي قبل أعوام مضت، كلّما زارني طيف التخبّط والضّعف استسلمت له، فالخيبات والأحزان المتتالية تقصم الظّهر وتحرق الرّوح كما لو أنّ ناراً نشبت في كومة قشّ جافّة، أتذكّر كيف كان منهجي في التّعامل مع هذه الاختبارات التّي أتلقّاها، كنتُ في قمّة البؤس والضّجر، أخضع لها وأُسلّمها زمام أمري.
وفي كلّ مرّة أتعرّض فيها لاختبار بسيط أرتمي على ظهري وأوسع له عن نحري وأستلُّ له السكّين كي تقطعه دون أيّ مقاومة، إلى أن بعث الله من انتشلني من غفلتي واستسلامي وشدّ على يدي؛ إذ قال لي: "إنّ الضّعف لا يليق بك والاستسلام للأحزان والمشاعر السلبيّة أبداً لن يقوّيك، وماذا يفيدك بأن يعلم كلّ العالم من حولك بأنّك مظلوم ومحزون؟ فلن يرمّمك سوى ذاتك وإصلاحك من نفسك ومواجهتك لكلّ لحظات التّعب والفشل التي تتعرّض لها وتخطّيها حتّى تعبُر بسلام دون أن تترك بداخلك ذلك الأثر الذّي يضعفك ويقتلك دون أن تشعر".
ربّما لم يقدّم شيئاً ملموساً، ولكن وهبني ما هو أكثر منه قوّة، أجاد نُصحي وعلّمني كلمات لم ولن أنساها ما حييت، اتّخذتُها نوراً ونبراساً في مثل هذه المواقف.
وإن أردت أن يجبر كسر روحك وتبرأ؛ لا بدّ لك أن تعلم أنّ رحلة الشّفاء ليست ببعيدة، فقط تحتاج إلى مثابرة وجهد، فشفاء الرّوح أصعب من التئام الجُروح؛ لأنّها تسبح في عالم سرمديّ، لا تنطوي عليها خصائص وقوانين المادّة كما الجسد.
وإن عزمتَ على أن تخوض هذه الرّحلة فلا بدّ:
1- أن تترك ما يُحزنك ولا تعلّق روحك بأشياء تستنزف ما بقى فيها من طاقة. فالأغاني والمعازف كمثال تَسلبك ولا تعطيك، تنغّص عليك لحظاتك، تشتّت فؤادك، وتعصف بما بقى فيك من أنفاس، فخُذْ بيدك وأبعدها عمّا تظنّ أنّه الرّاحة لها، ومهما انكسرت حاوِل أن تُعيد ترميمها سريعاً حتّى لا تدمن الانطفاء ومن ثَمَّ تُظلم إلى الأبد! ولا تستسلم لأحزانك، فقط سلّمها لذكرك وقرآنك.
2- أن تكون واقعياً، ذلك أن تنسى وتقتل كلّ مَخاوفك من كلّ ما هو خيال. دعْ خيالك كيْ لا تسجن روحك داخل ترّهات صنعتَها، فهناك فرق بين الأحلام وإن بدتْ مستحيلة وما بين الخيال العقيم، ففرّق بينهما حتّى لا تستنفد طاقتك في رثاء الأوهام.
3- لا تُكثِر اللّوم عمّن هو مُفارقُك، تلك خِصلةٌ تُورِث الكُرهَ والزّهدَ، فتَسريحٌ بإحسانٍ تلك أعظمُ الشّيمِ، واعلم أنّ من يريد الخروج لا يُعجزهُ شيء ولا يرّدهُ عن عزمه ذكرى ولا فضل ما دام عقد العزم، فـاتركه ولا تُكثِرْ فتُثقِل عليه وعليك! وأنّ من يُحِبّك ليس بالضّرورة من يتودّد إليك دوماً وعلى مقربة منك، فأصدَق الحُبّ هو ما توارى عنك ولازمك في الدّعوات والأعمال، وأنّ الظّاهر لا يُغني عن الباطن، فالأصل في الأمور والعلاقات بواطنها، فالكُل يُحسن التّصنُّع فقد يظهر لك عكس ما تبطن النفوس.
4- إذا فُقِدت أو حُذِفت ذكريات من حياتك "صور، أرقام هواتف…" لا تبالغ في الأسى والحزن عليها، ثِقْ حينها تمام الثّقة أنّ الله قد رفعها من حياتك كي تنسى وتريح فكرك وقلبك حتّى لا تكون حبيس الذّكرى كُلّما وقعت عيناك عليها.
5- لا تعمّق علاقتك مع الذّي يدمن الكذب واجعلها سطحيّة قدر المستطاع ولا تتعامل معه إلّا إذا اضطررتَ لذلك.
6- لا تعشَم في أحدٍ لا يلتزم بوعده، ولا تأمن لعهدٍ منه وكن دائم الحرص طيلة الوقت، فمن الممكن أن يبيعك ويخلف عهده.
7- لا تصدّق من لا يُتقن إلّا الكلام بأنّه سيفعل كذا وكذا وبالنّهاية لا يفعل شيئاً ممّا قال، وكلّ حديثه وكلامه مُجرّد أوهام وأحلام في فكره وعقله، وإن اضطررت أن تسمعه احذر أن يبيعك أوهامه، واعلم أنّ الأفعال وحدها من تُصدق.
8- إيّاك يوماً أن تلوم أحداً لا يستحقّ اللّوم حتّى لا تنقص من قدر نفسك. ولا تطلب ولا تستجدِ الإحساس من أحد؛ لأنّ من يقدّرك وباقٍ عليك لن يدعك تحتاجه، فالإحساس والاهتمام لا يُطلبان وإن طُلبا فلن يجلبان إلّا المَذلّة.
9- لا تبنِ أحلامك على أو مع أحدٍ لا يرى إلّا نفسه ومصالحه، ويضعك دوماً في مذيّلة قائمة اهتماماته وأحلامه.
10- عوّد نفسك طيلة حياتك أن تتعامل مع الغير بمبدأ المعاملة بالمثل، كن رجلاً مع الرّجل وشهماً مع الشّهم وأحِبّ من يُحبّك وقدّر من يُقدّرك وازهد في من يزهد فيك، وانْأَ بروحك ونفسك عن كُلّ من يَسلُبك طاقتك.
واعلم أنّ من استغنى فأنت عنه أغنى.. أغنى بالله عزّ وجلّ، ففوّض أمورك له بتسليم تامّ، وتأكّد أنّ الخيرة فيما يختاره الله، فلا يعلم الغيب إلّاه، ولا تسمح لأحد أن يعكّر صفو حياتك ويسهم في كسرك وتحطيمك، واجمع أنقاضك وابنِ بها جسراً لعالم مليء بالرّضا عن أفعال الله فثمَّة جنّتك وخلاصك. استجمع قواك وانهض، فدور الضحيّة لا يليق بك!
"اللّهمّ اجعل لي صمت الجبل يحمل في أحشائه البركان وهو صامت، ويحمل في باطنه الزلزال وهو هادئ، ويحمل في جوفه الذّهب والبلاتين والألماس ويبدو متواضعاً بفرش نفسه للفقراء والبسطاء.
اللّهمّ اجعل مكالماتي معك وحدك، فأنت وحدك الذّي تعلم ولا تظلم ولا تتبدّل عندك الأقوال والأحكام، ولا تضيع عندك محبّة" – د. مصطفى محمود.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.