Lagaan.. عندما تحدد لعبة مصير أمة

جنود الإنكليز، وفي مقدمتهم راسل الضابط القاسي، يتمادون في التنكيل والتحدي والإرهاق النفسي والبدني للقرويين بعد أن ربط مصيرهم بمباراة كريكيت

عربي بوست
تم النشر: 2017/12/25 الساعة 02:37 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/12/25 الساعة 02:37 بتوقيت غرينتش

منذ أن سيطرت البرتغال على أجزاء من الهند بعد اكتشافها رأس رجاء الصالح الذي قصّر المسافة وحوّل مسار التجارة والملاحة البحرية العالمية، كانت الهند بما فيها من الثروات والسكان والثقافات محل اهتمام أوروبي متزايد، وبعد أن دخلت القارة العجوز عصر الصناعة والتقنية، وتطلّعت إلى ما وراء البحار بغية السيطرة عليها، واستنزاف الطاقات والموارد الطبيعية للشعوب الغارقة في الضعف والانقسام زاد الاهتمام، ودخل كل من فرنسا وإسبانيا وألمانيا وبلجيكا وهولندا السباق المحموم نحو خيرات المشرق ونهب تراثه وحضارته الضاربة في جذور التاريخ من أجل توفير المواد الخام لمصانعهم وإيجاد أسواق عالمية لبضائعهم وأفكارهم.

وفي منتصف القرن 19م وصل الراج الإنكليزي إلى شبه الجزيرة الهندية التي كانت قبائل وإمارات متفرقة ومتناحرة يجمعها الجغرافيا وتفرقها المصالح وحب السيطرة على الآخر، فحكمها الإنكليز بموجب معاهدات أبرمها مع الملوك وزعماء القبائل الذين كان همّهم التقوّي على الكولونيالية وتمكينها للأرض من جانب، ونكاية المحتل الأوروبي الآخر كإسبانيا والبرتغال وهولندا الذين كانوا يمارسون العنف على المواطنين الكادحين من جانب آخر.

ظن البسطاء الهنود أن بريطانيا التي تظهر دائماً في بداية الاحتلال المرونة وكسب ود الأعيان والقبائل وإبرام المواثيق المجحفة تحت جنح المال والامتيازات والتفرقة أقلّ وطأة من الأوروبيين فسلموا البلاد والعباد إليها، وحقيقة القول كانت تمهيداً للكولونيالية الغربية في آسيا وإفريقيا وأقطار كثيرة من أميركا اللاتينية، ولم تمكث بريطانيا كثيراً حتى تغلغلت في أوساط الشعب الأرض وأصبحت الهند دولة مركزية لإمبراطوريتها التي لا تغيب عنها الشمس التي تمتد من أستراليا إلى أميركا ومن هونغ كونغ إلى غانا.

كانت بريطانيا رغم تفوّقها العسكري والمعرفي وتماسكها الداخلي الدولة الثالثة أوروبياً التي وصلت إلى الهند، ولكن جاءت بفترة كانت في غاية الأهمية حيث ضعف الحكم الأوروبي في آسيا مما جعلها الوريث الشرعي الوحيد في أملاك البرتغال وهولندا، وبعد وصولها أولت اهتماماً خاصاً للهند لما لها من ثقل سياسي واقتصادي واستعماري بالنسبة لبريطانيا؛ لأن احتلال الهند كان بمثابة إثبات الذات وهزيمة الأنداد الأوروبيين في ميدان الاستعمار واستحواذ إرث الممالك القديمة الذين حكموا على العالم طيلة القرنين السابع عشر والسادس عشر بفعل القرصنة البحرية، وازدهار تجارة الرقيق ومزارع قصب السكر والقطن والتبغ والبهارات في الكاريبي والبرازيل والسيطرة المطلقة على الطرق التجارية الرئيسية.

كانت شركة الهند الشرقية East India Company التي أسسها جون واتس في القرن 17م بتفويض ملكي مباشر لتكون وجهاً تجارياً للتاج البريطاني ترمي إلى إبعاد المنافسين المباشرين من المنطقة الحساسة والانفراد التام بتلك الأراضي الغنية بمواردها الاقتصادية وموقعها الجغرافي الحيوي وكثافتها السكانية، إضافة إلى إيجاد بديل للتوابل والطرقات القديمة للتجارة العالمية، وفي خضم بحثهم عن التجارة البديلة وجدت الشركة أن المنسوجات الهندية قد تكون بديلاً مناسباً، فبدأت السيطرة على الهند انطلاقاً من هذه النظرية الاقتصادية.

استقر الإنكليز على ربوع الهند ومنذ صدور قانون التنظيم وتعيين وارن هاستنجز الحاكم الفعلي العام للهند البريطانية، بدأ العهد الفيكتوري في الهند التي لم تكن لقمة سهلة، بل كاد الحلم أن يتبخر بعض المرات حيث واجه الحاكم البريطاني تحديات جمة ومظاهرات عمّت البلاد وحروباً شرسة قادها الأمراء الذين ناضلوا ضد التمدد البريطاني، ولكن بفعل السياسة الاستعمارية القديمة الجديدة (فرِّق تسُد) استطاع أن يفرق الشعب الهندي على أساس الدين والعِرق والمصالح، مما أضعف النسيج الاجتماعي وضرب الوحدة الهندية في مقتل.

ورغم التغلغل الإنكليزي وسيطرته التامة على مفاصل الوطن، فإن الاحتلال الرسمي والفعلي لشبه الجزيرة الهندية بدأ فعلياً عام 1875م عندما بسط نفوذه على شبه الجزيرة الهندية وسريلانكا وميانمار ونيبال، وبين ليلة وضحاها فقدَ الهنود أنفسهم ووطنهم وذاقوا الويلات وتجرعوا مرارة الانقسام والحروب الداخلية، ونهب الممتلكات والثروات باسم الحضارة والتفوق العرقي والمعرفي، وتحولت القرى والمدن والمزارع والإنسان إلى ممتلكات للرجل الأبيض الذي جاء بحثاً عن موطئ قدم وزعامة العالم الذي رسمته أوروبا وقسّمته من جديد حسب مصالحها الاقتصادية والسياسية والدينية.

وقد خلّد الهنود هذا التنكيل والتهجير القسري والسادية في بطون كتبهم وأفلامهم وأشعارهم وتراثهم الفني والفلكلوري، ومنذ أن بدأت السينما الهندية إنتاج الأفلام الناطقة عام 1931م كان النضال من أجل الحرية وتخليد أسماء أبطال الاستقلال في صفحات التاريخ والذاكرة الجمعية للهنود والعالم الفكرة المحورية والمحرك الرئيسي لمئات الأفلام والمسلسلات والمسرحيات، ومن الأفلام التي تناولت قضية الكولونيالية الأوروبية وتعسفها طيلة عقود Lagaan الذي يؤرخ جور الاحتلال البريطاني ومضايقته للسكان المحليين، الفيلم من إخراج أشوتوش جواريكر وبطولة عامر خان وجراسي سينج وراشيل شيلي وبول بلاكثورن، ورُشح لجائزة الأوسكار كأفضل فيلم بلغة أجنبية، وكان الفيلم الهندي الثالث الذي يرشح لهذه الجائزة في حينه بعد Mother India 1957 وSalaam Bombay 1988 وحصل على جائزة فيلم فير لأفضل فيلم وأفضل ممثل عام صدوره 2001م.

أحدث الفيلم الدرامي المثير والمتميز الذي تدور أحداثه حول قرية هندية نائية تعاني من الجفاف والقحط وقلة الموارد، يفرض عليها سلطات الاحتلال ضرائب إضافية أثقلت على كاهلها مما أزعج المواطنين البسطاء الذين يتقدمهم "بوفان"، الشاب الثائر الغاضب من العنجهية الإنكليزية التي لا تراعي الظروف ولا الأوضاع المعيشية والحياتية، في ظل أمة منهكة تعاني من التبعية والذل ونهب الموارد والممتلكات.

جنود الإنكليز، وفي مقدمتهم راسل الضابط القاسي، يتمادون في التنكيل والتحدي والإرهاق النفسي والبدني للقرويين بعد أن ربط مصيرهم بمباراة كريكيت، الضابط الإنكليزي يروج لثقافته وألعابه الشعبية، ويجبر على الآخرين إجادتها وإتقانها نظير إيجادهم لقمة العيش والحياة الكريمة!

وفي غطرسة واضحة يخبرهم أن مصيرهم مرهون باللعبة القادمة! فلو فاز الهنود ستسقط الضرائب عن القرية، ولو فاز الإنكليز ستتضاعف 3 مرات وستتضاعف معها الصرامة الاستعمارية، مما جعل المباراة عملاً بطولياً وملحمة شعبية بكل المقاييس.

في تلك المباراة المشحونة بالخوف والألم والرغبة على الفوز بأي ثمن احتشدت الجماهير الهندية وجاءوا من كل حدب وصوب من أجل تحطيم غرور راسل وإثبات الذات الهندية المليئة بالمواهب وإتقان الأشياء ولو كان من ثامن المستحيلات، رُفعت أكفّ التضرع وسالت الدموع على الخدود وفاض الشجن في الوجدان، ومُلئت الميادين، وفرّ الناس إلى المساجد والمعابد والأديرة، وعزفت الأغاني الهندية الشعبية وارتفعت المعنويات واجتمعت الأديان وظهرت موجات التحدي، ورغم الانسجام التام والتكاتف كادت بصمة عميل هندي مندس في أوساطهم تحركه نار الغيرة وحب الجاة أن يحطم الحلم، ويرسل أماني الشعب المقهور إلى القبور قبل أن ينكشف ويستعيد وعيه وضميره.

احتدمت المباراة وتمددت الأشواط، وفي كل رمية زفرات شجية لحلاقيم ناشفة ترسل أمنياتها إلى السماء بعد أن ربط مصيرهم بتلك الكرة المتدحرجة على الأرض، أو المحلقة في السماء، أو المصطدمة بالويكيت wicket، وبعد أشواط تحقق الحلم واستطاع الشعب الكادح أن يكسب النزال ويهزم الإنكليز، ويلقنهم درساً من المثابرة والانتماء، وبسبب الوحدة وعدم الاستسلام وقبول الهزيمة نال سكان القرية مبتغاهم، وأعفيت الضريبة، وجرحوا كبرياء الإنكليز، وأجبروهم على الخروج من الباب الخلفي للهند أذلّاء بعد سنوات من الاستعباد ومصادرة الحقوق والحريات.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
تحميل المزيد