يعرض Andrew Chakhoyan في مقال نُشر في مدونة المنتدى الاقتصادي العالمي في 7 ديسمبر/كانون الأول 2017 وجهة نظر مختلفة تماماً عما عهدناه عن المفاهيم الإدارية والتنظيمية السارية، مما قد يبدو أنه يمثل بداية عصر جديد في أساليب الإدارة يملك القدرة على التفاعل مع التغيرات شديدة التسارع في مجالات التكنولوجيا والاقتصاد والسياسة والمجتمع وغيرها.
يقدر البنك الدولي حجم القوى العاملة على مستوى العالم بحوالي 3.5 مليار نسمة في عام 2017، يعمل أغلبهم ضمن أنظمة إدارية وهياكل تنظيمية تقليدية تم توارثها وتطويرها منذ عصر الثورة الصناعية وحتى الآن، فهل انتهت صلاحية هذه الأنظمة أو اقتربت من ذلك؟ هذا ما سوف نحاول إلقاء الضوء عليه في هذا المقال.
يقول المتحدث في تيد Ricardo Semler: "إن المفتاح الحقيقي للتطور الإداري هو التخلص من المديرين أنفسهم"، وقد أورد سيميلر لتعزيز وجهة نظره بعض المصطلحات مثل "الديمقراطية الصناعية" و"إعادة هندسة المنظمات IndustrialDemocracy وCorporate Re-engineering، وبحسب طرحه فإنه ربما حان الوقت لإعادة تعريف مصطلح "المدير"؛ حيث تساءل عما إذا كانت فكرة "الإدارة" كما ورثناها من عصر الثورة الصناعية قد فقدت قيمتها بناء على هذه التغيرات.
في عالم الـVUCA( volatility, uncertainty, complexity and ambiguity) (التقلب، وعدم اليقين، والتعقيد والغموض)، من المتوقع أن تتبنى المنظمات التكنولوجية الرائدة مفاهيم ما بعد الهياكل الهرمية الحالية، بل إن منها من بدأ في العمل بها بالفعل؛ حيث لم تعد مفاهيم وأدوات سائدة مثل التحسين المستمر والتقدم التدريجي وتحسين العمليات كافية وحدها لمواكبة هذه التغيرات المتسارعة.
ولم يعد تحقيق النجاح ممكناً دون تبنّي مفاهيم ريادة الأعمال وخلق وتطوير الأفكار والحلول الجديدة من داخل المنظمات.
وقد أشارت خبيرة الموارد البشرية Patty McCordالمسؤولة عن تطوير المفاهيم التنظيمية في Netflix إلى المشكلة التي تظهر كلما كبر حجم المنظمات وازداد مع نموها مستوى التعقيد التنظيمي بها، حينها يقل عدد الموظفين الموهوبين، وتخفت الأفكار الإبداعية، وتتضاءل مستويات الأداء الاستثنائي بتلك المنظمات.
وقد انتشرت الورقة التي قدمتها ماكورد بهذا الصدد انتشاراً واسعاً في أوساط التطوير والتنظيم الإداري؛ حيث صنفت على أنها واحدة من أهم الوثائق التي خرجت من وادي السليكون في الولايات المتحدة خلال الفترة الأخيرة؛ حيث مثلت الحلول التي قدمتها ماكورد ثورة حقيقية في مفاهيم إدارة الموارد البشرية، والتي يعد من أهمها التحول للاعتماد على النقاش المفتوح والمنطق والحس السليم لأعضاء فرق العمل، بدلاً من السياسات والأدوات الرسمية والتقليدية؛ مما ييسر الحصول على حلول وأفكار إبداعية تحقق نتائج أفضل، ولكن بتكلفة أقل كثيراً.
وقد لفتت التغييرات التي أحدثتها ماكورد في أنظمة الموارد البشرية في Netflix الأنظار بشكل كبير ليس فقط من حيث التغيرات الجذرية في السياسات واللوائح، مثل إلغاء تقارير رحلات العمل، واستحداث نظام الإجازات المخططة ذاتياً عن طريق الموظفين، ولكن وبشكل كبير من حيث الحد من طغيان إجراءات العمل، والتركيز على استقطاب الموظفين الشغوفين مرتفعي الأداء، والسماح لهم بالإدارة الذاتية في بيئة عمل تحمل أقصى درجات المرونة.
ولْنلقِ نظرة على المفهوم السائد حالياً عن إدارة الموارد البشرية؛ حيث التنظيم ومتابعة الأداء، بل وفي كثير من الأحيان السيطرة عليها من قِبَل المديرين، فيما يمثل أمراً غير معقول في ظل بيئة العمل الكلية المطلوبة حالياً والمتوقعة مستقبلاً.
وقد أشار ستيف جوبز إلى هذا الخلل الكبير في مفاهيم إدارة البشر حين قال: "ليس من المنطقي أن نوظف أناساً أذكياء مؤهلين ثم بعد ذلك نملي عليهم ما يجب أن يقوموا به. نحن نوظف هؤلاء حتى يخبرونا هم ما يتوجب علينا القيام به".
ما قاله ستيف جوبز ربما لم يكن لينطبق على مناخ الأعمال إبان عصر الثورة الصناعية، وكذا في بيئات الأعمال التقليدية أو المتخلفة عن الركب؛ حيث أغلب الوظائف هي وظائف تنفيذية آلية يقوم بها البشر، ولكن في ظل مناخ الأعمال الذي يغلب عليه الذكاء والإبداع، وفي ظل مستقبل قريب يحمل تغيرات هائلة تتمثل في انتشار الذكاء الاصطناعي والكمبيوتر الكمي، واستبدال أعداد كبيرة من الموظفين بالروبوتات؛ فإن الإدارة بمفاهيمها الحالية لا يمكن أن تفي بمتطلبات التعامل مع هذه التغيرات، ومع حالات عدم التأكد التي تتطلب العمل غير التقليدي والإبداع والتجربة.
التحول الرئيسي الآخر الذي يعرض لنا يتمثل في أن التخطيط الاستراتيجي بآلياته وطرق تنفيذه الحالية لم يعد مناسباً لذلك العصر الجديد؛ حيث المتغيرات متسارعة، والتعامل الرشيق أصبح مطلباً مُلحّاً مع تلك المتغيرات ومع المستقبل غير الواضح.
إن الاستراتيجيات كما عهدناها هي في طور الانتهاء حالياً، وأصبح التحدي رقم واحد هو قدرة منظماتنا على التعامل مع التسارع في بيئة العمل والضبابية وحالات عدم التأكد على معظم الأصعدة.
وخلاصة القول هنا أن طبيعة الإدارة الهرمية الحالية لم تعد مناسبة لتحديات الاقتصاد الحديث. فكل ركن من أركان التنظيم التقليدي هو الآن في حالة تحول. وبالرغم من أن هذه الطبيعة لا تضيف كثيراً، بل تقيد الابتكار وتخنق الإبداع، إلا أنها وبالرغم من ذلك تتمتع بحماية بالغة من أصحاب الأعمال والمديرين التقليديين الذين يحظون بالغالبية العظمى من قوة التأثير الإدارية الحالية.
وقد صور لنا Tanmay Vora ذلك ببراعة شديدة؛ حيث بين التحول من استهداف الربح إلى تقديم القيمة وتحقيق النتائج، ومن الهياكل الهرمية إلى الهياكل العضوية والتكامل وفرق العمل الموجهة بالأهداف، ومن المراقبة والتحكم إلى تمكين الموظفين، ومن التخطيط الاستراتيجي إلى الرشاقة والتجريب، ومن التكتم والخصوصية إلى الإفصاح والشفافية.
ودعنا نلقي نظرة على المصطلحات الجديدة التالية: الوعي بالسياق " Contextual Awareness" والرؤية المحيطية "Peripheral Vision" والتفكير المنظومي ", Design Thinking" والنهج متعدد التخصصات "Multi-disciplinary Approach" والتي تمثل كلها توجهاً سائداً في الأوساط الإدارية العصرية، وتستحق أن تكون كذلك في منظمات خالية من البيروقراطية والألقاب التقليدية، منظمات قائمة على فكر المشاريع وفرق العمل عالية الأداء، منظمات تتمتع بقدر هائل من المرونة والرشاقة التنظيمية تتناسب مع متطلبات الحاضر والمستقبل القريب.
إن مفهوم القيادة لا يجب أن يقتصر على التخطيط وتنظيم الموارد وإسناد المهام، وتقييم الأداء، بل يجب أن يمتد ليشمل توظيف المواهب المناسبة وتمكينها بدلاً من محاولة إدارتها، وربطها بالسياق الأوسع، وأيضاً الربط العضوي بين فرق العمل داخل المنظمة، وبينها وبين باقي مكونات بيئة الأعمال الكلية.
إن اتباع هذه المفاهيم العصرية في التعامل مع الموارد البشرية من شأنه أن يطلق العنان لقدراتها الكاملة، وأن يتيح لمنظماتنا القدرة على التعامل مع التحديات الكبيرة التي تواجهها في الحاضر والمستقبل القريب، ولعلنا قريباً نجد مسمى وظيفياً مطلوباً وبكثرة اسمه منسق السياق أو "Context Curator" بدلاً من "مدير إدارة"، فهل ننتظر ونكتفي بالمشاهدة أم نبدأ الآن ونشارك في بناء عصر الإدارة الجديد؟
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.