كنت واقفة في الصف أنتظر دوري أمام أحد المتاجر في ضواحي شيكاغو يوم البلاك فرايدي (الجمعة السوداء).
كان الصف طويلاً ومزدحماً وبطيئاً، فقد جرت العادة أن يقف المتسوقون لساعات خلال فترة التخفيضات هذه، قبل أن يأتي دورهم، ونظراً لاشتهار مدينة شيكاغو بتنوعها السكاني، كان الصف يعج بأناس من مختلف الجنسيات: أميركيين أفارقة، أميركيين بيض، إسبان، آسيويين، بولونيين، عرب، وغيرهم. كنت أنظر إلى الناس من حولي وأتأمل جمال اختلافهم وروعة تجانسهم وامتثالهم لقواعد النظام، فبالرغم من تعدد أشكالهم وألوانهم وثقافاتهم كان الكل خاضعاً لقانون الانضباط.
كانت تقف أمامي في مقدمة الصف فتاة عربية محجبة، وبعد ساعات من الانتظار وعندما أوشكت أخيراً على الوصول إلى المقدمة، ظهر فجأة ثلاثة أشخاص وانضموا إلى الفتاة المحجبة مباشرة في الأمام (واحدة منهم كانت أيضاً محجبة).
لقد لفت تصرفهم هذا انتباهي، ولكن أقنعت نفسي بأنه لا بد أنهم كانوا أيضاً واقفين هنا منذ الصباح، وكل ما في الأمر أنهم تغيبوا قليلاً وعادوا إلى مكانهم في مقدمة الصف.
وبعد فترة قصيرة اقتربت إحدى الموظفات بكل هدوء من الفتاة المحجبة وشرحت لها أن الزبائن قد وقفوا هنا منذ الصباح، وأن هذا التصرف غير منصف لهم، ثم استسمحت الثلاثة أشخاص الذين انضموا مؤخراً وطلبت منهم بلطف أن يعودوا إلى مؤخرة الصف وينتظروا دورهم كبقية الزبائن.
احتجت الفتاة المحجبة وصرخت معترضة على ما سمته "الظلم"، وأصرت على أنها لن تعود إلى الخلف.
اعتذرت الموظفة وحاولت أن تشرح لهم مرة أخرى أنها فقط تقوم بعملها، وأن عليها أن تؤمن النظام للجميع.
ولكن لم يكن هذا التبرير كافياً لإقناع الفتاة المحجبة واستمرت بالجدل مع الموظفة حتى أتى مدير المتجر وأجبرهم على العودة إلى آخر الصف.
وفي غضون ذلك، كنت أسمع الناس من حولي تستنكر وتهمس، "إنها تكذب"، "لقد رأيتهم، لقد جاءوا للتو"، "هذا اعتباطي". وبعد أن عادوا إلى الخلف، بدأ الشخص الذي يقف خلفي مباشرة بالتصفيق وقال للموظفة: "حسنا ما فعلت، عليهم أن يتعلموا النظام".
لم تكن هذه المرة الأولى التي أشعر فيها بالازدراء من تصرفات بعض العرب والمسلمين هنا في أميركا، ولكن ما أثار غضبي هذه المرة بالذات هو طبيعة الموقف وردة فعل الناس تجاه تصرف الفتاة المحجبة.
فمن بين العشرات من الزبائن الواقفين في الصف، وباستثنائي أنا، كانت تلك الفتاة وصديقتها الوحيدات المحجبات، كما أنهن كن يقفن في مقدمة الصف أمام الجميع، ولكن لم يمنعهن ذلك من القيام بتصرف غير مسؤول، بل أيضاً وصل بهن الحال إلى الكذب والنكران على مرأى ومسمع عشرات الأشخاص من شتى بقاع العالم.
وعلى غرار ذلك، نرى الكثير من العرب والمسلمين لا يحترمون قوانين البلد ويحتالون من أجل الحصول على المساعدات الحكومية من غير استحقاق ونهب خيرات البلد بشتى الوسائل والتهرب من دفع الضرائب من باب "أميركا تدعم إسرائيل بأموال الضرائب" ويعتبرون هذا الاحتيال "شطارة" (هذا يجب ألا يفهم بأي شكل من الأشكال أنه إقرار بسياسات أميركا الخارجية التعسفية وغير العادلة بحق العرب والمسلمين، ولكن من الحمق مواجهة الباطل بالباطل).
ليس الهدف من طرحي هذا الحط من شأن المسلمين أو العرب أو تعزيز الصورة النمطية المشوهة أصلاً للإسلام والمسلمين، كما أنني لا أقصد التعميم هنا لكيلا أقوض جهود الجالية الإسلامية أو أستخف بإنجازات الشباب المسلم.
لكن أريد أن أسلط الضوء ليس فقط على واقع المسلمين المرير في الغرب، كما يفعل الكثيرون، بل أيضاً على المسلم نفسه ومسؤوليته تجاه هذا الواقع، مما لا شك فيه أن المسلمين هنا يعانون بالفعل من شتى أشكال الاضطهاد، ولكن هل نسأل أنفسنا: ماذا فعلنا نحن كمسلمين حيال هذا الواقع؟
علينا أولاً أن نتفق على أن مفهوم الإسلام في الغرب متشكل إلى حد كبير بوسائل الإعلام التي تعمل على تشويه وتنميط صورة الإسلام والمسلمين من أجل خدمة أجندة سياسية معقدة.
فمعظم الأميركيين لا يكادون يعرفون شيئاً عن الإسلام، والكثير منهم لم يلتقِ بمسلم من قبل، إن هذا الجهل بالإسلام في الغرب إلى جانب دور الإعلام السلبي يضعنا نحن المسلمين، شئنا أم أبينا، أمام مسؤولية كبرى وتحديات صعبة لا يجب أن يستهان بها.
فحين نخالف القوانين أو نتصرف بشكل غير مضبوط، لا ينظر إلينا فقط كمواطنين غير صالحين، بل أيضاً كمسلمين وبذلك نكون، سواء عن قصد أو بغير قصد، قد ساهمنا بتعزيز الصورة النمطية للإسلام.
لذلك فإن التصدي لهذه التحديات لا يكمن فقط بالتركيز على التغيير الخارجي (واقع المسلمين)، بل أيضاً على التغيير الداخلي (مسؤولية المسلم حيال تغيير هذا الواقع).
هناك عدد لا بأس به من المنظمات الحقوقية، مثل كاير وغيرها، التي تدافع عن حقوق المسلمين في الغرب وتندد بالعنصرية وتتصدى للحملات المعادية للإسلام وما إلى ذلك، وعلى الرغم من أهمية وجود هذه المنظمات ودورها الفعّال أعتقد أنها غالباً ما تستخدم خطابات عاطفية للتركيز المجرد على ملابسات الواقع المرير للمسلمين، معززة بذلك فكرة الضحية أو "المؤامرة الكونية على الإسلام والمسلمين".
وأرى أن لعب دور الضحية هذا هو خطر جسيم؛ لأنه يثبط هِمَمنا ويبرر تقاعسنا وتقصيرنا ويحولنا إلى أفراد سلبيين جُل طموحنا هو رفع الظلم عنا ومقاومة المفترس لا الإسهام الفعال بالمجتمع وأخذ زمام المبادرة.
علينا لذلك أن نأخذ جزءاً من مسؤولية التغيير، وأن نعود إلى أنفسنا ونستبدل الخطاب العاطفي الانفعالي المحبط بخطاب تحفيزي توعوي، يحث على التغيير الداخلي من صميم المجتمع الإسلامي، خطاب يشجع المسلمين على النجاح والتفوق والمشاركة بكافة مجلات الحياة، وإحداث تغييرات حقيقية على الصعيد السياسي والاجتماعي والثقافي.
علينا أن نعيد النظر في الدور الذي يؤديه المسلمون في الغرب، وأن يكون لدينا ما يلزم من الوعي والمسؤولية لنغيّر، ولو قليلاً، صورة الإسلام في الغرب، أو على الأقل ألا "نزيد الطين بلة".
هذا لا يقتضي بتاتاً أن نكون مهووسين بإرضاء الغرب أو أن نتخلى عن مبادئنا كمسلمين (كما يعتقد البعض أن الحل للتخلص من "عقدة اضطهاد المسلمين" هي بالتخلّي عن كل مقومات الثقافة الإسلامية والذوبان الكلي في المجتمع الغربي).
كما أنه لا يقتضي أيضاً أن نكون اعتذاريين أو أن نرضى بالظلم والذل أو نتنازل عن المطالبة بحقوقنا، أو نكف عن التنديد بالعنصرية.
ما أقوله هو أن ندرك جدية المسؤولية التي تقع على عاتقنا كمسلمين في بلاد اللاإسلام، وضرورة أن نكون فاعلين، وألا نكتفي بلعن الظلام، بل نشرع في إضاءة الشموع.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.