جاءت الدراجة الهوائية كحل ثوري لمشكلة المواصلات والمرور، فثوريتها كانت كامنة بعدة عوامل، أهمها سهولة الاستخدام والتكلفة البسيطة، ومقارنةً بباقي وسائل المواصلات السائدة سابقاً أثبتت الدراجة الهوائية كفاءتها، وخاصةً للمسافات القصيرة والمتوسطة.
وعند اختراع السيارة وجدنا تالياً ما لها من تأثير سلبي على البيئة نتيجة انبعاثات العوادم، فازدادت قيمة الدراجة الهوائية الشعبية، وخاصةً لدى الدول المتقدمة.
فكما نرى اليوم أصبحت أحد المظاهر الحضارية في الدول الأوروبية هي ركوب الدراجة الهوائية وتسهيل وتنظيم البيئة التحتية المناسبة لاستخدامها، فنرى رئيس وزراء أحد الدول يذهب لعمله مستخدماً الدراجة الهوائية ووزيراً في دولة أخرى أصبحت الدراجة الهوائية أداةً أساسية في حياته اليومية.
أما على الصعيد المحلي في سوريا، فانتشرت الدراجة الهوائية منذ أيام الانتداب الفرنسي؛ لكون معظم الظواهر الاجتماعية الفرنسية انتقلت للمجتمع السوري، وكانت الدراجة الهوائية إحداها، وانتشرت بشكل تدريجي حتى أصبحت وسيلة أساسية للمواصلات للعديد والعديد من المواطنين.
وعند اشتداد الأزمة السورية وما رافقها من نزوح جماعي من الأرياف نحو العاصمة والاختناق السكاني الذي أدى إلى ازدحام مروري قاتل، زاده وضع حواجز تفتيش ضمن المدينة اختناقاً وازدحاماً- جاءت الفكرة للمؤسسين الأوائل لمبادرة "يلا عالبسكليت"؛ للتنويه إلى أهمية ركوب الدراجة الهوائية واستخدامها كوسيلة نقل أساسية.
وكما أي شيء في الحياة، ترد الأمور لـ"عرض وطلب"، فكان الطلب واضحاً نتيجة ما عانته المدن من ازدحام شديد، فجاءت المبادرة لتوضح وجود أداة مساعدة هي الدراجة الهوائية وتشدد على أهمية استخدامها كوسيلة مواصلات أساسية.
وبالفعل، بدأت المبادرة بالعمل ضمن خطط منهجية وتنظيم عالٍ، كان هدفه نشر رسالة أساسية وبسيطة؛ وهي التشجيع على ركوب الدراجة الهوائية. وكما أي مشروع، بدأت المبادرة بأعداد صغيرة، ما لبثت أن ازدادت بشكل متسارع، حتى أصبحت ثقافة "يلا عالبسكليت" ظاهرة منتشرة في مدينة دمشق خاصة وبسوريا عامة.
وكما أية ظاهرة حديثة، كانت المرأة آخر المستفيدين، فعند العودة للسنين السابقة نرى أن المرأة دائماً ما عانت للحصول على أي امتياز اجتماعي أو شعبي حديث، فعند بروز الثورة الصناعية كانت المرأة آخر من دخل الشركات والمعامل، وخاصةً كأدوار أساسية وقيادية، وعند ظهور السيارة كانت المرأة آخر من قادها واستخدمها، والمفارقة هنا أن الكوكب يحمل جنسين فقط لا ثالث لهما ورغم ذلك يُحْرم في البداية أحد هذين الجنسين من الامتيازات الجديدة إلى أن يقاتل ويناضل من أجلها مدة من الزمن وينتزعها انتزاعاً ليصبح في النهاية هذا "الحق" أمراً عادياً مسلَّماً به، وكأنما المرأة كُتبَ عليها الصراع دوماً حتى تهنأ بعيشة هنية.
فبعد عدة سنوات من العمل ضمن مبادرة "يلا عالبسكليت"، لاحظنا ازدياداً واضحاً في أعداد الدراجات الهوائية المنتشرة في شوارع دمشق، إلا أن مشكلة واحدة عكّرت صفو هذا الازدياد؛ ألا وهي أن الازدياد كان مقتصراً على الذكور فقط!
ولم يكن هذا الأمر بالنسبة لي عاملاً مفاجئاً، فلكوننا نعيش ضمن إحدى دول العالم الثالث التي تعاني تخلفاً اجتماعياً زادته الحرب تخلفاً، كان ركوب الدراجة الهوائية للسيدات، منذ الأزل، فعلاً "معيباً" ضمن عاداتنا وتقاليدنا؛ لما يرافقه من معتقدات مرتبطة بغشاء البكارة ووضعية السيدة البدنية في أثناء ركوبها الدراجة الهوائية.
فكان من واجبنا المساواة بين الجنسين حتى تصبح كِفَّتا الميزان متعادلتين، ونصبح على قناعة بأن رسالتنا قد أنجزت فحواها بشكل حقيقي غير مقتصر على جنس أو نوع اجتماعي.
فبدأنا البحث عن الأسباب التي تمنع الفتاة أساساً من ركوب الدراجة الهوائية، خاصةً كوننا نرى الكثيرات منهن يتقن البدء بممارسة هذا النشاط إلا أن شيئاً ما يمنعهن!
وكانت النتيجة صادمة وغير صادمة في الوقت نفسه، فالسبب الرئيسي الذي حال دون ركوب معظم الفتيات الدراجة الهوائية في سوريا، كان "ممانعة الأهالي" وتنفيذهم عدة أنواع من العنف النفسي والأسري على بناتهم إن هن أردن شراء دراجة هوائية وركوبها.
وكان في المرتبة الثانية، خوف الفتيات من المجهول الذي قد يصيبهن، وخاصةً لحالات تحرش لفظي يعتقدن أنهن في غنىً عنها، فكما روت لي إحدى الصديقات أنها وفي أول يوم لها على الدراجة الهوائية عادت إلى المنزل باكيةً نتيجة ما سمعته وما لاقته من تصرفات مهينة في الشارع، بالطبع هذه التصرفات مهينة لفاعلها وليس للمتلقي.
وعند تحليل هذه العوامل معاً والبحث عن حلول عملية لها، كان الحل يتطلب ازدياداً حقيقياً للفتيات اللاتي يقدن الدراجة الهوائية في شوارع دمشق، بحيث إن الظواهر عند انتشارها بشكل واسع لن تصبح مجرد "ظاهرة"؛ بل ستصبح فعلاً يومياً اعتيادياً في شوارع المدينة، شأنه شأن ركوب السيدة للسيارة، هل رأيت أحداً يتحرش بسيدة فقط لركوبها سيارة؟
كما أن هذا الازدياد وجب علينا إرفاقه بحملة توعوية؛ للحد من ظواهر العنف والتحرش اللفظي الذي تتعرض له الفتاة في أثناء ركوبها الدراجة الهوائية، فتأمين بيئة سليمة للسيدات أمر ضروري لتشجيعن على البدء بممارسة هذا النشاط.
وقد يقول قائل إن التحرش اللفظي هو مجرد هرطقة ابتدعناها، لكن دعني أؤكد لك أنك عند سؤالك أية فتاة تقود الدراجة الهوائية عن كم الكلمات السلبية التي تتلقاها فستجد جواباً صادماً، لن أبالغ إن قلت إنها في كل شارع تتعرض لكلمة.
ولكوننا كمبادرة مجتمعية كنا فعّالين دوماً في حملة "16 يوماً لمناهضة العنف ضد المرأة"، فقد قمنا بإسقاط هذه الحملة على قضيتنا وأطلقنا حملة "مناهضة التحرش اللفظي لراكبات الدراجة الهوائية"، فكانت هذه الخطوة الأولى للحل.
تلاها الخيار الأقوى والأكثر تأثيراً؛ ألا وهو "مسير يلا صبايا عالبسكليت" الذي حمل رسائل الحملة التوعوية، وحقق العامل الآخر وهو زيادة عدد الفتيات اللاتي يقدن الدراجة الهوائية في عيون المجتمع.
فعندما يرى الناس أن 300 فتاة وسيدة من مختلف الأعمار والخلفيات في دمشق اجتمعوا ضمن هذا الحدث لهدف واحد وهو قيادة الدراجة الهوائية، فسنكون قد تقدمنا خطوة نحو تحقيق التوازن النوعي لراكبي الدراجة الهوائية، فالأثر الذي نبحث عنه هو أثر اجتماعي يؤثر على السيدات أنفسهن أولاً؛ لما للمسير من شحنة إيجابية قادرة على أن تبعث في النفوس طاقةً ورغبة في البدء بممارسة هذا النشاط بشكل يومي.
كما اعتمدنا مفهوم "الامتثال"، بحيث إن هذا الحشد فيه العديد من السيدات والفتيات اللاتي يمثلن جميع أطياف الإناث في سوريا؛ لذا فإن أية واحدة منهن أصبحت مثالاً تشجيعياً يحتذى به لجميع الفتيات اللاتي يشبهنها، فالفتاة المحجبة العشرينية المشاركة في المسير أصبحت محفزاً لباقي الفتيات المحجبات العشرينيات، واستطاعت التأثير عليهن أكثر من غيرها نتيجة التشابه والتماثل بينهن.
أما عن موضوع "السيدات فقط" ولمَ كانت المشاركة دون وجود عامل ذكوري، فإن الهدف من مثل هذا النشاط هو التنويه إلى فكرة بعينها وزرعها ضمن المجتمع، فوجود الذكور والإناث ضمن هذا المسير جنباً إلى جنب أمرٌ ضروري وهام، لكنه يخدم أفكاراً أخرى غير التي نود إيضاحها وإيصالها في حملتنا هذه، وهو ما قمنا به 3 مرات سابقاً.
كما أن المسيرات المختلطة يطغى عليها الوجود الذكوري، مما يشكل عاملاً سلبياً معاكساً لرسالتنا التي تدعو لنشر التوازن وليس لتدعيم الكفة الذكورية، هذا التوازن بحاجة لظهور الكفة الأدنى بشكل أوضح قليلاً؛ حتى يتسنى لها الارتقاء وتصبح جنباً إلى جنب مع الكفة الأخرى.
في النهاية، أود التنويه إلى أن عملنا يهدف إلى نشر ثقافة ركوب الدراجة الهوائية في سوريا، وهو عمل قائم ضمن منظومة المجتمع المدني، التي تتكاتف جنباً إلى جنب مع القطاعات العامة والخاصة، وكل طرف فيهم له دور محدد للتأثير على المجتمع السوري، ودورنا محدد ومنوط بأمر معين قادر على الإسهام في حل عدة مشاكل اجتماعية عن طريق الدراجة الهوائية، التي اجتازت مجرد كونها أداة نقل وأصبحت أداة قادرة على زرع مفاهيم كسر النمطية والتقبل للآخر، ولنا في هذه المواضيع أحاديث ومقالات أخرى.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.