قالت إحدى الأخوات: الأنثى أعلى رتبةً من الذكر، ومفضلة عليه، وهذا ثابت في القرآن الكريم.
فقلت: أين ذلك في كتاب الله؟
قالت: في قول الله تعالى: {فلما وضعتها قالت رب إني وضعتها أنثى والله أعلم بما وضعت وليس الذكر كالأنثى} بحكم قواعد اللغة العربية والبلاغة فإن الأنثى مفضلة على الذكر.
قلت: غير صحيح، اللغة والسياق في الآية كلاهما يدل على أن الذكر مفضل.
قالت: ألا تعلم أن البلاغة تقتضي وتستوجب أن يكون المشبه به أعظم من المشبه؟!
قلت: أعلم ذلك، لكن ألا ترين النفي السابق على التشبيه؟!
إن النفي هنا نفي أفضلية المشبه به وجعل الأفضلية للمشبه، كقولك لمن يجادل:
ليس العالم كالجاهل في منفعة الناس.
فهل يمكن أن تقولي هنا إن المشبه به [الجاهل] أعظم في المنفعة من المشبه [العالم]؟!
بالطبع لا.
لأن النفي والسياق أبطلا القاعدة البلاغية هنا فجعلا الأفضلية للمشبه وليس للمشبه به.
قالت: فكيف دل السياق في الآية على أن الأفضلية للذكر؟!
قلت: إن حنة زوجة عمران كانت تتأمل وترجو أن تضع ذكراً؛ ليقوم على خدمة وسدانة بيت المقدس، فلما وضعتها أنثى قالت {رب إني وضعتها أنثى… وليس الذكر كالأنثى" بشيء من الحسرة، ولم تكن تعلم أن الأنثى التي وضعتها خير وأكرم من أُمة من الرجال، ودل على ذلك الجملة الاعتراضية الجميلة العظيمة التي ذكرها وقالها الله -عز وجل- في سياق كلام زوجة عمران:
{فلما وضعتها قالت: رب إني وضعتها أنثى -والله أعلم بما وضعت- وليس الذكر كالأنثى}.
فجملة: (والله أعلم بما وضعت) تدل على عظم ورفعة ما وضعت، والتي هي مريم عليها السلام.. والله أعلم.
فسألت إحداهن: لو تفضلت وأفدتنا أكثر عن وجه الشبه المنفي في الآية الكريمة.. جزاك الله كل خيراً.
فأجبتها:
أختنا: إن النفي ليس لوجه الشبه، إنما النفي لأفضلية المشبه به [الأنثى] على المشبه [الذكر] في الصفة المشتركة التي هي وجه الشبه؛ حيث إن التشبيه هو: عقد مشابهة بين شيئين اشتركا في صفة زادت في أحدهما على الآخر.
ذلك أن الأصل في التشبيه أن تكون الصفة في المشبه به أقوى منها في المشبه أو على الأقل مساوية، مثل قولنا: العالم كالبحر سعةً، أو قولنا إن كان المشبه به مساوياً: عمر مثل أحمد في العمر.
وتقدير الكلام في الآية: ليس الذكر كالأنثى في القدرة على خدمة بيت المقدس
فلو حذفنا النفي من التقدير صار الكلام: الذكر كالأنثى في القدرة على خدمة بيت المقدس. وهذا المعنى مناقض للحقيقة والواقع فجاء النفي لتحقيق المطابقة للواقع.
فردت إحداهن معترضةً:
وفق قواعد اللغة العربية يتضح تفضيل الأنثى على الذكر؛ لأن الاسم الذي يتعرض لضربة سيف (ليس النافية) يتحول إلى مفضول، أما الاسم الذي يأتي بعد رافعة (كاف التشبيه) يفوز بشرف الفاضل.
وهذا ما جرت عليه العادة في لغة العرب، حين يقولون:
– ليس الثرى كالثريا.
– ليس القول كالعمل.
– ليس الأعمى كالبصير.
فالمشبه به الواقع بعد كاف التشبيه هو الفاضل وليس العكس.
والإمام الشوكاني يشرح الآية باستفاضة وافية؛ إذ يرى "أن قوله: {وليس الذكر كالأنثى} خطاب من الله لأم مريم يقول لها فيه: وليس الذكر الذي طلبت كالأنثى التي وضعت… ويعتبر الشوكاني الرأي الآخر في تفسير الآية بأفضلية الذكر رأياً مخالفاً لقراءة الجمهور وسياق الآيات".
ومما يؤسف له أن ثقافتنا الاجتماعية هي التي تجعلنا نسارع إلى تفسير الآية بكونها تعني تفضيل الذكر على الأنثى، أما السياق اللغوي للآية فلا علاقة له بما فهمه العقل البدوي الاجتماعي من النص، وفقاً لثقافة احتقار الأنوثة الموروثة لا وفق قواعد اللغة وأصول التفسير.
وإن عجبي لكبير من بعض المفكرين الإسلاميين الذين يحاولون تفسير الآية بطرق متكلفة لتفضيل الذكر على الأنثى ولا مبرر لمثل هذا التكلف إلا تأثرهم بالتفسير السطحي للآية، ولو توقفوا لقراءة الآية وفق قواعد اللغة لاكتشفوا أن جهودهم ذهبت هباء منثوراً؛ إذ لا داعي لها البتة.
وأضافت: إنني أثق بدقة الله تعالى في كتابه كدقته في خلق كونه، وعلى ذلك بحسب قواعد اللغة العربية، فالأنثى تكون أفضل، وذلك لوقوعها في موضع المشبه به في النفي.
ومما يظهر ثبوت هذا الاستدلال أن الله تعالى أراد تعظيم نفسه فنفى الشبه عن مثله وقال: {ليس كمثله شيء}، وبالقياس تكون الأنثى هي الأفضل.
ورددت أنا: أختنا الفاضلة بارك الله فيك ونفع بك..
أولا: إن التشبيه بين متناقضين ليس كالتشبيه بين متفاضلين، فعادة ما يكون للتشبيه بين متناقضين غرض بلاغي آخر غير الغرض الأصلي للتشبيه؛ إذ ليس الغرض التشبيه، وإنما الغرض إنكار التشابه بين المشبه والمشبه به، وإن أردت دليلاً على ذلك فاحذفي النفي من التشبيه وتأملي:
الثرى كالثريا / القول كالعمل / الأعمى كالبصير.
بعد حذف النفي صار المعنى غير مقبول، فقد أوتي بالنفي قبل التشبيه لإنكار المشابهة بينهما، وعلى هذا -مع احترامي الشديد لرأيك- يبطل ما قدمت.
ثانياً: ليست مريم -عليها السلام- هي المقصودة بالأنثى في الآية {وليس الذكر كالأنثى} وإنما قصد عموم الجنس، فإن مريم -عليها السلام- تفضل أمماً من الرجال.
ثالثاً: إن التفاضل بين المرأة والرجل قائم في شتى النواحي، تزيد المرأة وتفضل الرجل في بعضها، ويزيد الرجل ويفضل في بعض آخر، وفي التفاضل والتفاوت فيما بين الرجل والمرأة حكمة بالغة أرادها الخلاق العليم حتى إذا ما اجتمعا زوجين تكاملا.
أما ميزان التفاضل عند الله فإنه التقوى، لا تنفع معها الذكر ذكورته، ولا تبخس فيها المرأة أنوثتها، إنما التفاضل حينها بسلامة القلب، والتقى، والعمل الذي سلف، وليس التفاضل بالذكورة أو الأنوثة أو غيرهما، ولعل أنوثة المرأة ترجح كفّتها برحمة الله لضعفها، ولتهنأ الأنثى بأنوثتها؛ إذ قد يشفع لها ضعفها وقت لا ينفع الذكر ذكورته وفحولته.
والله أعلم.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.