تُعرف مدينة شرشال، المطلة على البحر الأبيض المتوسط (90 كم عن الجزائر العاصمة)، بالآثار التي تدل على التاريخ الحافل بالحضارات التي مرت بها؛ إذ كانت منذ القرطاجيين مدينة استراتيجية، فالعهد النوميدي إلى السيطرة الرومانية، لتحمل اسم القيصرية عاصمة لموريتانيا القيصرية المستقلة في الحكم عن روما.
بفقدان المدينة استقلاليتها، صارت كولونيا كلاوديا سيزاريا عاصمة روما الجديدة. دُمرت من طرف الوندال وسَيطر عليها البيزنطيون لتفقد موقعها فازدهارها، حتى توافد المورسكيون إليها، حيث عادت واجهة حضارية تحمل هذا الاسم.
إن الوجود الإسلامي، تحديداً الموريسكيين، ترك أثره بالمدينة ككل الحضارات التي وطئتها؛ إذ سكنها أكثر من 1000 عائلة طُردت من الأندلس منذ سنة 1492م، حيث أقاموا فيها وتركوا إرثاً وموروثاً لم يندثر. من بين الشواهد على هذا، احتفال أهل شرشال بالمولد النبوي عن طريق "المنارة" ما يزيد على 4 قرون إلى أن حُبست داخل الأضرحة والمنازل منذ 13 سنة خلت تقريباً.
"المنارة" كانت تمثل مهرجاناً شعبياً بامتياز، استقطب الآلاف من السياح من داخل الجزائر وخارجها، قيل إنهم بلغوا 500 ألف سائح. وهي لا تعدو كونها منارة من خشب، أغلبها على شكل قبة مسجد تُصنع بفناء المسجد العتيق قبل أشهر من الاحتفال بالمولد النبوي.. يجتمع أهل المدينة لنقلها إلى مقام الولي سيدي عبد الرحمن.
بقدوم ليلة المولد، تُضاء "المنارة" بالشموع؛ لتطوف كل أرجاء المدينة، تُرش بالعطور مع إلقاء السكر والحلويات حتى الميناء لتُحمل على قارب. يتخلل الموكب الذي يَحمل فيه الأطفال مناراتٍ مصغرة، زغاريد وأذكار وأناشيد لمدح النبي (ص)، ثم تستقر أخيراً بمقام الولي سيدي إبراهيم الغبريني، حيث يتلى القرآن وتُدرس السيرة النبوية أسبوعاً كاملاً، كما تُقدم الصدقات.
توقف هذا المهرجان ليُكتفى به في دوائر مغلقة، أرجعه سكان المدينة إلى أسباب عدة، أهمها -حسبهم- التهميش الذي تشهده المدينة من طرف السلطات، والانزلاقات الأخلاقية التي يشهدها المهرجان من هرج ومرج، وكذا التشديد على أن سبب المنع إمام مسجد الرحمن الواقع وسط المدينة، بخوضه حملة ضد المهرجان مع خطب كثيرة تضمنت تحريمه بفتوى منه، وسعيه الدائم لإيقافه حتى كان له ما أراد.
الوارد أن انطفاء "المنارة" مُستقصد؛ لأن الأسباب غير مقنعة؛ لكون شرشال غنية عن التعريف تاريخياً وثقافياً، فلو بقي المهرجان لكان وسيلة ترويج للمدينة سياحياً نظراً إلى ما تحويه من آثار. كما أن الاهتمام برصد ميزانية للمنشآت القاعدية والتهيئة بها، سيعود بالكثير على الدولة في مجال السياحة، الثقافة، والعمل.
فيما يخص التنظيم وما يشهده المهرجان من انحرافات، فالمعروف أن كل مهرجانات العالم يشوبها أمور كهذه، خير دليل المهرجان الإفريقي بالجزائر 2009 الذي صُرفت الملايين لإنجاحه. وإن كان، فالحل أسهل لتجنّب هذا، فوجود الأكاديمية العسكرية سيسهل تأمين المهرجان من جهة والتنسيق لتنظيمه من جهة أخرى.
أما المرجح وإن صح أن السبب الإمام، الذي لا يزال على رأس مسجد الرحمن منذ أكثر من 15 سنة كأغلب المسؤولين الذين عششوا في كراسيهم، فلا يسع إلا القول "الله يهديه". أوَ ليست "المنارة" تمثيلاً للنور الذي جاء به المصطفى (ص)؛ لتكون فرصةَ اجتماع الناس للذكر وقراءة القرآن وذكر السيرة النبوية والتكافل؟!
صراحةً، لم أفهم إن كنتم إماماً تابعاً لوزارة الشؤون الدينية أم مسؤولاً في وزارة الثقافة والسياحة أو هيئة أخرى لمنع المهرجان أم صرتم أولياء الله على الأرض بفتاويكم ولا يرى سواكم الحق!
"المنارة" بمدينة مليانة لم تنطفأ وما زالت تضيء في كل مولد دون مزايدة، مُنتظرةً "منارة" شرشال.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.